للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولم ير أولئك الجماعة غيره، كان في هذا أظهر الأدلة على أنه صاحبها، وكان الظن المستفاد من ذلك لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة، واحتمالُ الغلطِ وعداوة الشهود كاحتمال الغلط وعداوة (١) المرأة هاهنا، بل ظن عداوة المرأة في هذا الموضع في غاية الاستبعاد؛ فنهاية الأمران هذا لَوْثٌ ظاهر لا يستبعد ثبوت الحد بمثله شرعًا كما يقتل في القَسَامة باللوث الذي لعله دون هذا في كثير من المواضع؛ فهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع، والأحكام الظاهرة متابعة للأدلة الظاهرة من البيِّنات والأقارير وشواهد الأحوال، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة ولا تنضبط (٢) أمر لا يقدح في كونها طرقًا وأسبابًا للأحكام، والبينة لم تكن موجبة بذاتها للحد، وإنما [ارتباطُ الحدِّ بها] (٣) ارتباط المدلول بدليله، فإن كان هناك دليل يقاومها أو أقوى منها لم يُلْغِهِ الشارع، وظهور الأمر بخلافه لا يقدح في كونه دليلًا كالبيّنة والإقرار، وأما سقوط الحد عن المعترف فإذا لم يتسع له نطاف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فأحْرَى أن لا يتسع له نطاف كثير من الفقهاء، ولكن اتسع له نطاق الرؤوف الرحيم، فقال: "إنه قد تاب إلى اللَّه" (٤) وأبي أن يحده، ولا رَيْبَ أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طَوْعًا واختيارًا خشيَةً من اللَّه وحده [وإنقاذًا لرجل مسلم] (٥) من الهلاك، وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل أكبر من السيئة التي فعلها، فقاوم هذا الدواء لذلك الداء، وكانت القوّة صالحة، فزال المرض، وعاد القلبُ إلى حال الصحة، فقيل: لا حاجة لنا بحدك، وإنما جعلناه طُهْرةً ودواءً؛ فإذا تطهرَّت بغيره فعفوُنَا يَسَعُك، فأيُّ حكمٍ أحسن من هذا الحكم وأشد مطابقة للرحمة والحكمة والمصلحة؟ وباللَّه التوفيق.

وقد رُوِّينا في "سنن (٦) النَّسائي" من حديث الأوزاعي: ثنا أبو عَمَّار شَدَّاد، قال: حدثني أبو أُمامة أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يَا رسول اللَّه أصبتُ حدًا فأقمه عليَّ، فأعرض عنه، ثم قال: إني أصبت حدًا فأقمه عليَّ، فأعرض عنه، ثم قال: يَا رسول اللَّه إني أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، فأعرض عنه، فأقيمت الصلاة، فلما سلَّم رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: يَا رسول اللَّه إني أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، قال: "هل توضأت حين أقبلت؟ قال: نعم، قال: هل صلَّيت معنا حين صلينا؟ قال:


(١) في المطبوع: "أو عداوة".
(٢) في (ن) و (ق): "أو لا ينضبط".
(٣) في (و) بدل ما بين المعقوفتين: "ذلك من".
(٤) يقصد المؤلف بقوله: "الرؤوف الرحيم" رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والحديث سبق قريبًا.
(٥) في (و): "وانقاد الرجل المسلم".
(٦) في (ك): "مسند"!!

<<  <  ج: ص:  >  >>