للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد عرفت توجيه هذه الأقوال.


= وحينئذ يتعين أن الإفادة إنما هي عرفية. فبنا ضرورة إلى تفقد العرف، إن وجدنا فيه شيئًا أفتينا به، وإلا حرم علينا الفتيا به وإن كان منقولًا في المذهب، فإن وضعه في المذهب يستحل أن يكون اللغة كما تقدم، فيتعين أن يكون العرف. والعرف إذا تغير تغيرت أحكامه إجماعًا كما تقدم.
ومن العجب أنهم يُفتون بلزوم الطلاق الثلاث بما هو أشد وأبعد من "الحرام" وهو: الخَلية والبَرية ووهبتُك لأهلك. مع أنا لم نسمع أحدًا طلق امرأته بلفظ الخلية، ولو سمعناه ما كان عرفًا حتى يتكرر تكررًا يستغني في فهم معناه عن القرينة. ألا ترى أنا نسمع لفظ الأسد يستعمل في الرجل الشجاع مرارًا كثيرة، ومع ذلك لا نقول أنه من الألفاظ المنقولة، لاحتياجه للقرينة عند الإطلاق. وكذلك البحر في العالم والسخي، والغيث والغمام، وكذلك البدر في الجميل، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تستعمل مجازًا فما يلزم من أصل الاستعمال النقل.
ومالك رحمه اللَّه تعالى إنما أفتى في (المدونة) في الخلية والحرام والبرية ووهبتك لأهلك بالثلاث لأجل عرفٍ في زمانه. فإذا لم نجد نحن ذلك العرف لا تكون تلك الفتيا من ذلك في تلك الصورة، بل في صورة العرف لا في سورة عدمه. ألا ترى أنه أفتى بألفاظ كثيرة في المرابحة لأنها في العرف ذلك الوقت تستعمل كذلك. وفي وقتنا هذا لا تلزم تلك الأحكام عند تلك الإطلاقات. ألا ترى إلى قول القاضي إسماعيل في كتاب (الجلاب): إنما قال مالك ذلك في قبض الصداق؛ لأن ذلك كان عرفهم بالمدينة، وأما في غيرها فلا.
بل نص العلماء في الكتب الموضوعة في الفُتيا وأحكامها وشروطها على أن المفتي إذا كان لبلدةٍ عادة وجاءه رجل لا يدري من أي البلاد هو يجب عليه أن يسأله عن عرف بلده. فإن أخبره بخلاف عرف بلده حرم عليه أن يفتيه بعرف نفسه ووجب عليه أن يفتيه بعرف السائل. فإن جاءه سائل آخرُ عرفُ بلده غير بلد الأول وجب عليه أن يفتيه بغير ما أفتى به الأول وكذلك جميع السائلين.
وإنما أطنبت في هذا؛ لأني رأيتهم يجمدون على النقول الموجودة في الفتاوى المبنية على العوائد ويقولون: النقل هكذا، ولا يخرجوه عنه أصلًا. وهذا صعب محرم لا مرية فيه.
إذا تقرر هذا، إن كان العرفُ في (الحرام) الثلاث فكما تقدم. وإن كان العرف أنه لأصل الطلاق دون العدد بطل استثناؤه؛ لأن أصل الطلاق واحدة، واستثناء واحدة من واحدة لا يصح فتلزمه واحدة، وهي مقتضى أصل كلامه. وإن كان اللفظ لم ينقل لأصل الطلاق أيضًا لم يلزمه شيء البتة إلا بالنية. هذه قواعد الفقه التي يتعين الانقياد لها".
وانظر: "عقد الجواهر الثمينة" (٢/ ١٦٥)، "المدونة" (٢/ ٣٩٤، ٤٠٢ - ط صادر)، "المعونة" (٢/ ٨٤٨)، "أسهل المدارك" (٢/ ١٤٢)، "الكافي" (٢٦٥)، "مواهب الجليل" (٤/ ٥٧)، "بداية المجتهد" (٢/ ٧٦ - ٧٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>