للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"إذا كان الحكم مستغربًا جدًّا ممّا لم تألفه النّفوس، وإنّما ألفت خلافه فينبغي للمفتي أن يوطّئ قبله ما يكون مؤذنًا به كالدّليل عليه والمقدّمة بين يديه، فتأمل ذكره -سبحانه- قصَّة زكريّا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر الشَّبيبة وبلوغه السنّ الّذي لا يولد فيه لمثله في العادة، فذكر قصَّته مقدَّمة بين يدي قصَّة المسيح وولادته من غير أب؛ فإنّ النّفوس لما آنست بولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لهما عادة سَهُل عليه التّصديق بولادة ولد من غَير أب، وكذلك ذكر -سبحانه- قبل قصَّة المسيح مُوافاة مريم رزقها في غير وقته وغير إبّانه، وهذا الَّذي شجَّع نفس زكريَّا وحرّكها لطلب الولد وإن كان في غير إبّانه، وتأمّل قصَّة نسخ القبلة لمَّا كانت شديدة على النفوس جدًّا كيف وطّأ -سبحانه- قبلها عدة موطئات. . . " ثم ذكرها إلى أن قال: "والمقصود أن المفتي جديرٌ أن يذكر ين يدي الحكم الغريب الذي لم يؤلف مقدّمات، تؤنس به، وتدلّ عليه، وتكون توطئة بين يديه، وباللَّه التوفيق" (١).

ومن أمثلة ذلك: ما ذكره في مبحث العبرة بالمقاصد والنّيات، حيث وطّأ بين يدي القول الفصل في المسألة بأنَّ اللَّه عز وجل رتَب الأحكام على الإرادات والمقاصد بواسطة الألفاظ الدَّالة عليها، ولم يرتّب تلك الأحكام على مجرّد ما في النّفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ لم يقصد المتكلِّم معانيها بل تجاوز للأمّة عن ذلك كلّه وتجاوز لها عمّا تكلّمت به مخطئة أو ناسية أو مكرَهة أو غير عالمة، لأنّ هذه الأمور لا تدخل تحت الاختيار، فلو رتّب عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حرج ومشقّة.

قال بعدها: "فإذا تمهّدت هذه القاعدة فنقول. . . ". فذكر أقسام الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلّمين وإراداتهم (٢).

ومن ذلك أنّه لمّا ذكر أدلّة نفاة القياس أنّ الشريعة قد فرَّقت بين مجتمعين وجمعت بين مفترقين، مهّد للجواب على هذه الشبهة فقال: "وهذه الجملة إنّما تنفصل بعد تمهيد قاعدئين عظيمتين"، ثمّ ذكر القاعدتين: أولاهما أن النّصوص الشّرعية محيطة بجميع أفعال المكلفين (٣). والثانية: ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس (٤)، في أمثلة كثيرة يصعب حصرها.


(١) "إعلام الموقعين" (٥/ ٥٢ - ٥٣).
(٢) "إعلام الموقعين" (٣/ ٥١٧).
(٣) "إعلام الموقعين" (٢/ ٩٠).
(٤) "إعلام الموقعين" (٢/ ١٦٥)، وما مضى من "القواعد الفقهية المستخرجة" (١١٧ - ١١٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>