للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار، وإلا فلو طهرت منا القلوب، وصفت الأذهان، وزكت النفوس، وخلصت الأعمال، وتجردت الهمم للتلقّي عن اللَّه ورسوله لشاهدنا من معاني كلام اللَّه وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق" (١).

وكرر هذه المعاني في مواطن من كتبه (٢).

وهذا لا يتنافى مع ما قدمناه عنه من اعتزازه بعلمه (٣)، فإن العالم إذا شدّ النَّفَس، وأتعب البدن، وبذل الجهد في تأصيل مسألة وتقعيدها، أو لمّ شعثها وجزئياتها، فإنه يفرح بذلك، ويعتز، وفخر ابن القيم واعتزازه بالعلم وللعلم، وليس لذاته، ولذا قال بعد بحث مسألة: "فتأمل هذه المعاني التي لا تجدها في كتاب، وإنما هي روضة أنف، منح العزيز الوهاب فهمها، وله الحمد والمنة" (٤) فلم يفخر ويعتز رحمه اللَّه بعلمه، بل في كلامه الأخير تواضع، وأن اللَّه هو الذي فهمه هذا، ولذا قال بعدها: "لو وجدناه لغيرنا لأعطيناه حقه من الاستحسان والمدح، وللَّه الفضل والمنة" (٥). فالأمر أكبر من النفوس وحظوظها.

فالفخر والاعتزاز عنده بالحق الذي قامت عليه الدلائل، ليكثُر الخير، ويُنتفع به، وهو يصنع هذا على حد قول علي: "إن هاهنا علمًا لو أصبت له حملة" (٦) وعلى نسق طلب يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)} [يوسف: ٥٥]، قال ابن القيم:

"فمن أخبر عن نفسه بمثل ذلك، ليتكثر بما يحبه اللَّه ورسوله من الخير، فهو محمود، وهذا غير من أخبر بذلك؛ ليتكثّر به عند الناس ويتعظّم، وهذا يجازيه اللَّه بمقت الناس له، وصغره في عيونهم" (٧).

فابن القيم متواضع، ومع تواضعه يفتخر بالحق الذي علمه اللَّه إياه، ورحم اللَّه تلميذه ابن رجب لما قال عنه: "وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله" (٨).


(١) "إعلام الموقعين" (١/ ٣٠٣ - ٣٠٤).
(٢) انظر -على سبيل المثال-: "حادي الأرواح" (١٦)، "مفتاح دار السعادة" (١/ ٤٧ و ٢/ ٢٧٣).
(٣) انظر: (تاسعًا) من (المحور الثاني).
(٤) "بدائع الفوائد" (٢/ ٨٩).
(٥) "بدائع الفوائد" (٢/ ٨٩).
(٦) انظر: تخريجه في التعليق (١/ ٣٨).
(٧) "مفتاح دار السعادة" (١/ ١٣٩).
(٨) "ذيل طبقات الحنابلة" (٢/ ٤٤٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>