للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يتقن سواه، ثم أيقن أنه لم يكتب في موضوعه أجود منه.

ونجد ابن القيم، في كتابنا هذا إذا عرض لمسألة من المسائل استوعب الكلام فيها من جميع جوانبها، وذلك بأن يورد أقوال الطوائف فيها، ثم يتبع هذا بمناقشة أدلتهم، ثم ينتهي إلى رفض الآراء التي لا تثبت أمام النقد واختيار الرأي الذي يتفق مع العقل والنقل الصحيح في نظره (١).

وتكلمنا فيما سبق (٢) أن من منهجية المصنف في كتبه: التحليل والتأصيل، وأن النهضة العلمية اليوم تتطلب من تلاميذها العكوف على مثل نوع كتابنا من المؤلفات، ودراسته بتمحيص من ناحية نظرية، ابتغاء تحصيل ثمرته العملية، ولا سيما في استنباط الأحكام العلمية للنوازل الفقهية التي لا سبيل لمعرفتها إلا من خلال القواعد والمقاصد التي يتوصل إليها من خلال استيعاب المنصوص: جمعًا وتمعنًا وتحليلًا واستقراءً، وحينئذ يحسن إلحاق غير المنصوص به، أما الهجوم على غير المنصوص دون ذلك، فمن مظنة الخطأ والزلل، أو التعدي والقصور، أو الوقوع في التعالم، وعدم معرفة قدر النفس، وهذه هي آفة الفقه في هذا الزمان.

وما أحوج أهل زماننا إلى مصنَّف يجمع أسرار التشريع وحِكَمَه على وفق العلوم التجريبية والإنسانية، يستعرض فيه جميع أبواب الفقه، على المنهج الذي سلكه ابن القيم، من تعظيم الدليل، والاهتمام بالنظرة المقاصدية، وضمّ الشبيه إلى الشبيه، بضابط فهم السلف، وعدم التأثر بضغط الواقع، وشُبَهِ المهزومين من الداخل.

ومع ذلك، فإن لابن القيم في كتابه هذا مؤشر التقدم والإبداع، ذلك أنه تمثل بمسائله وقضاياه، والمشاكل التي تحدث عنها في عصره، قمة العطاء والتقدم آنذاك على وجه لم يوجد له شبيه، ولا ما يدانيه، أو ما يقاربه ويجاريه، وهو يحكي نبوغه المتفرد المتمثل بضرب من التقدم بتدوين مباحث في الفقه وأصوله نال الإعجاب والتقدير، بسبب ضوابطه المنهجية والتزامه به، على وجه لا يستغني عنه البحث العلمي الموضوعي في أيّ وقت، وهو ينمّ عن مقدرة أصولية، وظَّفها صاحبها توظيفًا لو لم يكن له سواه لكفاه تقدّمًا وفخرًا وشرفًا.

وقد أصاب الشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه- كبد الحقيقة لما قال: "لو لم يكن من مؤلفاته إلا كتابه "زاد المعاد في هدي خير العباد" ذلك الكتاب النافع


(١) "ابن القيم أصوليًا" (٤١) بتصرف.
(٢) انظر: (ص ١٩٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>