أما القول بالتخيير، فله مفاسد عديدة، بيّنها بما لا مزيد عليه الشاطبي في "الموافقات" (٥/ ٩٤ وما بعد)، ومما قال: "إن المتخير بالقولين -مثلًا- بمجرد موافقة الغرض، إما أن يكون حاكمًا به، أو مفتيًا، أو مقلدًا عاملًا بما أفتاه به المفتي". ثم قال عن المفتي: "فإنه إذا أفتى بالقولين معًا على التخيير، فقد أفتى في النازلة بالإباحة واطلاق العنان، وهو قول ثالث خارج عن القولين. وهذا لا يجوز له. إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق، وإن بلغها لم يصح له القولان في وقت واحد ونازلة واحدة أيضًا حسبما بسطه أهل الأصول. وأيضًا، فإن المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه، إلا أنه لا يُلزمه المفتي ما أفتاه به، فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا. وأما إن كان عاميًا؛ فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع، ولأن العامي إنما حكم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب؛ فإن العبد في تقلباته دائر بين لمَّتين: لَمَّة ملك، ولمَّة شيطان، فهو مخير بحكم الابتلاء في الميل مع أحد الجانبين، وقد قال تعالى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: ٧، ٨]. {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: ٣]. {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: ١٠]. وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات (أي: الفعل والترك)، والهوى لا يعدوهما، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي؛ فهو قائل له: "أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق"، فلا يمكن -والحال هذه- أن يقول له: "في مسألتك قولان؛ فاختر لشهوتك أيهما شئت؟ ". فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع، ولا ينجيه من هذا أن يقول: ما فعلتُ إلا بقول عالم؛ لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس، وقاية عن القال والقيل، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رميٌ في عماية، وجهل بالشريعة، وغش في النصيحة، وهذا المعنى جار في الحاكم وغيره، والتوفيق بيد اللَّه تعالى. وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (١٠/ ٤٧٢ - ٤٧٣) و"رفع العتاب والملام" (ص ٦٤ - ٦٥).