للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)}] [البقرة: ١٧، ١٨] (١) إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)} [البقرة: ٢٠]، فضرب للمنافقين بحسب حالهم مَثَلين: مثلًا ناريًا، ومثلًا مائيًا، لما في النار والماء من الإضاءة (٢) والإشراق والحياة؛ فإن النار مادة النور، والماء مادة الحياة، وقد جعل اللَّه الوحي الذي أنزله (٣) من السماء متضمنًا لحياة القلوب واستنارتها، ولهذا سماه روحًا ونورًا، وجعل قَابِلِيه أحياءَ في النور، ومن لم يرفع به رأسًا أمواتًا في الظلمات، وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي أنهم (٤) بمنزلة من استوقد نارًا لتضيء له وينتفع بها، وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاؤا به، وانتفعوا به، وآمنوا به، وخالطوا المسلمين (٥)، ولكن لما لم يكن لصحبتهم مادة من قلوبهم من نور الإسلام طفئ عنهم، وذهب اللَّه بنورهم، ولم يقل بنارهم؛ فإن النار فيها الإضاءة والإحراق، فذهب اللَّه بما فيها من الإضاءة، وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق، وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فهذا حال من أبصر ثم عَمي، وعَرف ثم أنكر، ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه، فهو لا يرجع إليه؛ ولهذا قال: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)} ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي (٦)، فشبههم بأصحاب صَيِّب -وهو المطر الذي يَصوب، أي؛ ينزل من السماء- فيه (٧) ظلمات ورعد وبرق، فلضعف بصائرهم (٨)، وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يشبه الصواعق، فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق، فلضعفه وخوره جعل أصبعيه في أذنيه، وغمض عينيه خشية من صاعقة تصيبه (٩).


(١) "وتمام الآيات: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} (ط)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(٢) في (ن): "من الإحياء".
(٣) في (ق): "أنزل".
(٤) في المطبوع: "وأنهم".
(٥) في (ق) و (ن): "وخالفوا المسلمين". وقال في هامش (ق): "لعله: وخالطوا" وقوله: "آمنوا به" سقطت من (ك) و (ق).
(٦) في (ك): "الثاني".
(٧) في (ق): "وفيه".
(٨) في (ق) و (ك): "أبصارهم".
(٩) انظر كلام ابن القيم -رحمه اللَّه- حول تفسير هذه الآيات بتوسع أكثر من هذا في كتابه الفذ: "اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص ١٢ - ١٦، الطبعة الهندية)، و"الوابل الصيب" (ص ٦٨ - ٧٢ تحقيق الأرناؤوط)، و"شفاء العليل" (ص ٩٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>