للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صعب فَرَّطَ فيه طائفة فعطَّلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرأوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسَدُّوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظنًا منهم مُنَافاتها لقواعد الشرع، والذي أُوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها فلما رأى وُلَاةُ الأمر ذلك، وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة، وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض وتفاقَمَ الأمر وتعذَّر استدراكه، وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يُناقض حكم اللَّه ورسوله، وكلا الطائفتين أُتِيَتْ من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث اللَّه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن اللَّه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقِسْط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان فذلك من شرع اللَّه ودينه ورضاه وأمره، واللَّه تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته، وأماراته في نوع واحد ويبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر، بل بيَّن بما شرعه من الطرف أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها والطرق أسباب ووسائل لا تُراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبَّه بما شرعه من الطرق على أشباهها وأمثالها ولن تجد طريقًا من الطرق المثبتة للحق إلا وفي شَرْعِهِ سبيل للدلالة عليها وهل يُظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟

ولا نقول: إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها وتسميتها سياسة أمرٌ اصطلاحي وإلا فإذا كانت عَدْلًا فهي من الشرع" (١).

وساق أمثلة عديدة مليحة على السياسة العادلة من سنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وسيرته، وسيرة خلفائه الراشدين ومن بعدهم (٢)، ثم قال (٥/ ٥١٧):

"وتقسيمُ بعضهم طرقَ الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة، وكتقسيم آخرين الدينَ إلى عقل ونقل، وكل ذلك تقسيم باطل، بل


(١) انظر: (٥/ ٥١٢ - ٥١٣).
(٢) انظر: (٥/ ٥١٣ - ٥١٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>