كذلك -أيضاً- يجب علينا أن نحذر من التفرق، وتمزق الكلمة، واختلاف القلوب؛ فإن ذلك يوجب الفشل والخذلان، كما قال الله عز وجل:{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:٤٦] .
وأنا أرى في الساحة اختلافاً، وأرى قيل وقال، فهذا ينصر هذا القول، وهذا ينصر القول المضاد، وهذا ينتحل لهذا الرجل، وهذا ينتحل لرجل آخر، وكل شخص منهم يقف ضد الآخر، وهذا خطر عظيم، ما لنا ولزيدٍ أو لعمروٍ، نحن نتبع الحق أينما كان، ومن أي جهة كانت، وليس الحق مخصوصاً بشخصٍ معين دون شخصٍ آخر، ربما يأتي الحق من رجل كافر، وربما يأتي الحق من رجل فاسق، وربما يفوت الحق رجلاً مؤمناً يخطئ، وكل إنسان خطَّاء.
وقد تستنكرون أن أقول: إن الحق يأتي من رجل كافر! ولكنه يأتي من رجل كافر، ويجب قبوله، أليس الله تعالى يقول:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}[الأعراف:٢٨] فقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}[الأعراف:٢٨] ولم يكذبهم في قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا}[الأعراف:٢٨] لأن قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا}[الأعراف:٢٨] حق فأبطل الله قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}[الأعراف:٢٨] ولم يبطل قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا}[الأعراف:٢٨] لأنه حق فيجب قبوله ولو كان من كافر، وهذا الرجل اليهودي الذي حدث النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، إلى آخر الحديث هل كذبه الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أو قال: لا نقبل منك لأنك يهودي؟ لا.
صدَّقه، وضحك حتى بدت نواجذه تصديقاً لقوله، ثم قرأ قول الله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الزمر:٦٧] .
وإذا كان هذا هو الواقع؛ فالواجب علينا أن نتبع الحق أينما كان، وأن نأخذ به من أي مصدر كان.
فما بالنا ننتحل لزيد أو لعمرو ثم نقول: كل ما قاله فهو حق وصواب، وكل ما قاله الآخر فهو باطل وخطأ، فهذا لا يليق بالمؤمن إطلاقاً، اتبع الحق أينما كان، واعلم أن الإنسان قد يأتي بالحق الكثير ثم يخطئ مرة واحدة، أو يأتي بالخطأ الكثير ثم يصيب مرة واحدة، أو يكون خطؤه وصوابه متساويين، وفي الأحوال الثلاث كلها الواجب علينا: أن نأخذ بالحق وندع الباطل، وإذا رأينا من شخص خطأً ونحن نعلم حسن نيته فالواجب الاعتذار عنه لا التشنيع عليه؛ لأن التشنيع بأهل الحق من خصال النفاق، هم الذين إذا أمسكوا على أهل الإيمان خطأً واحداً بنوا عليه أخطاء كثيرة، وشنعوا عليه، وأشاعوا الفاحشة فيه.
أما المؤمن فإذا رأى من شخصٍ خطأً وهو يعرف منه حسن نيته، فإنه يعذره لحسن نيته، فليس كل إنسان يخطئ نعذره في خطئه، يمكن أن يخطئ متعمداً، لكن إذا علمنا حسن نية الرجل، وأن هذا خطأ فادح، وكل ابن آدم خطاء؛ فإن الواجب علينا أن نعذره، وألَاّ نتحدث ونشنع عليه أمام الناس، ثم الواجب علينا تارة أخرى أن نتصل به، ونقول: إنك قلت كذا، أو فعلت كذا، ثم نبين الخطأ، قد يكون الخطأ بفهمنا نحن، ويكون ما قاله هو صحيحاً، وقد يكون الخطأ منه، وإذا كان حسن النية رجع إلى الصواب حتى لو كان أكبر الناس، من لم يتواضع للحق فهو مستكبر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) .
فالواجب علينا -أيها الإخوة- ألا يكون همنا القيل والقال، وقال فلان وقال فلان، وفلان على حق، وفلان على خطأ، الواجب علينا أن نتبع الحق أينما كان، وأن نأخذ به من أي مصدر كان، وإذا صدر من شخص خطأ -والإنسان معرض للخطأ- فإنه لا يجوز أن نشنع عليه بهذا الخطأ، بل نعتذر عنه أمام الناس متى علمنا حسن نيته، ثم نتصل به لمناقشته على ما نظن أنه خطأ؛ إذ قد يكون الخطأ منا لا منه، حتى تستقيم الأمة وتكون الكلمة واحدة، ولا يحصل تفرق ولا نزاع، وأنتم تعلمون -بارك الله فيكم- أنه إذا حصل التفرق والتمزق بين الأمة زالت هيبتها، وصارت فريسة للشيطان والهوى، لكن إذا عقدنا العزم على أن نكون يداً واحدة، وأن نكون قلباً واحداً، وأن نكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مخبراً خبراً يجب أن يطبق:(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وبهذا تتم أمورنا وتحسن أحوالنا، نسأل الله أن يتم لنا ذلك بمنه وكرمه.