تفسير قوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً)
قال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:١٢] الغيبة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ذكرك أخاك بما يكره) وهذا تفسير من الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أعلم الناس بمراد الله تبارك وتعالى في كلامه (ذكرك أخاك بما يكره) سواء كان ذلك في خلقته، أو في خلقه أو أحواله، أو عقله أو في ذكائه أو غير ذلك, المهم أن تذكره بما يكره, سواء في خلقته مثل أن تقول: فلان قبيح المنظر دميم، وفيه كذا وكذا تريد معايب جسمه.
أو في خُلُقه، كأن تقول: فلان أحمق, سريع الغضب, سيئ التصرف, وما أشبه ذلك.
أو في خلقته الباطنة كأن تقول: فلان بليد, فلان لا يفهم, فلان سيئ الحفظ, وما أشبهها, ورسول الله صلى الله عليه وسلم حدها بحد واضحٍ بين: (ذكرك أخاك بما يكره, قالوا: يا رسول الله! أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) أي: جمعت بين البهتان والغيبة.
وعلى هذا فيجب الكف عن ذكر الناس بما يكرهون, سواء كان ذلك فيهم أو ليس فيهم, واعلم أنك إذا نشرت عيوب أخيك فإن الله سيسلط عليك من ينشر عيوبك (جزاء وفاقا) لا تظن الله غافلاً عما يعمل الظالمون, بل سيسلط عليه من يعامله بمثل ما يعامل الناس.
لكن إذا كانت الغيبة للمصلحة فلا بأس بها ولا حرج فيها, ولهذا لما جاءت فاطمة بنت قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستشيره في رجال خطبوها, بين معايب من يرى أن فيه عيباً, فقد خطبها ثلاثة: معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه, وأبو جهم بن الحارث , وأسامة بن زيد , فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أما معاوية فصعلوك لا مال له, وأما أبو جهم فضراب للنساء, أنكحي أسامة بن زيد) فذكر النبي صلى الله عليه وسلم عيباً في هذين الرجلين للنصيحة وبيان الحق, ولا يعد هذا غيبة بلا شك, ولهذا لو جاء إنسان يستشيرك في معاملة رجل قال: فلان يريد أن يعاملني ببيع أو شراء أو إجارة أو تريد تزويج من خطب ابنته أو ما أشبه ذلك وأنت تعرف فيه عيباً فإن الواجب عليك أن تبين له ذلك, ولا يعد هذا كما يقول العامة: من قطع الرزق, بل هو من بيان الحق, فإذا عرفت أن في هذا الرجل الذي يريد أن يعامله هذا الشخص ببيع أنه مماطل كذاب محتال فقل له: يا أخي! لا تبع لهذا إنه مماطل إنه محتال إنه كذاب, ربما يدعي أن في السلعة عيباً وليس فيها عيب, وربما يدعي الغبن وليس مغبوناً, وما أشبه ذلك, فتقع معه في صراع ومخاصمة، إنسان جاء ليستشيرك في شخص خطب منه ابنته, والشخص ظاهره العدالة والاستقامة وحسن الخلق, ولكنك تعرف فيه خصلة معيبة فيجب عليك أن تبين هذا, مثلاً: تعرف أن في هذا الرجل كذباً, تعرف أنه يشرب دخاناً لكنه يجحده ولا يبينه للناس, يجب أن تبين وتقول: هذا الرجل ظاهره أنه مستقيم وخلوق وطيب ولكن فيه العيب الفلاني, حتى لو كان هذا متجهاً إلى أن يزوجه بين له العيب, ثم هو بعد ذلك بالخيار؛ لأنه سيدخل على بصيرة.
فعلى كل حال: يستثنى من الغيبة: إذا كان على سبيل النصيحة, وذكرنا دليل ذلك من السنة, فهل هناك دليل من عمل العلماء؟ نعم هناك دليل, ارجع إلى كتب الرجال -مثلاً- تجده مثلاً يقول: فلان بن فلان سيء الحفظ, فلان بن فلان كذوب, فلان بن فلان فيه كذا وكذا, فيذكرون ما يكره من أوصافه نصيحة لله ورسوله, فإذا كان الغرض من ذكر أخيك بما يكره النصيحة فلا بأس.
كذلك لو كان الغرض من ذلك: التظلم والتشكي فإن ذلك لا بأس به, مثل: أن يظلمك الرجل، وتأتي إلى شخص يستطيع أن يزيل هذه المظلمة فتقول: فلان أخذ مالي, فلان جحد حقي, وما أشبه ذلك فلا بأس, فإن هند بن عتبة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها أبا سفيان , تقول: (إنه رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي, فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) فذكرت وصفاً يكرهه أبو سفيان , ولكنه من التظلم والتشكي, وقد قال الله تعالى في كتابه: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:١٤٨] أي: فله أن يجهر بالسوء من القول لإزالة مظلمته, ولكن هل يجوز مثل هذا إذا كان قصد الإنسان أن يخفف عليه وطأة الحزن والألم الذي في قلبه بحيث يحكي الحال التي حصلت على صديق له, صديقه لا يمكن أن يزيل هذه المظلمة لكنه يفرج عنه، أم لا يجوز؟ الظاهر أنه يجوز, لعموم قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} وهذا يقع كثيراً, كثيراً ما يؤذى الإنسان ويجنى عليه بجحد مال أو أخذ مال أو ما أشبه ذلك, فيأتي الرجل إلى صديقه ويقول: فلان قال في كذا قال في كذا يريد أن يبرد ما في قلبه من الألم والحسرة, أو يتكلم في ذلك مع أولاده أو مع أهله أو مع زوجته أو ما أشبه ذلك, هذا لا بأس به؛ لأن الظالم ليس له حرمة بالنسبة للمظلوم.