[معنى البيعة عند أهل العلم]
فضيلة الشيخ: ثبت في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات وليس في عنقه بيعة لأحد مات ميتتة جاهلية) ومعلوم: أنه في أكثر بلاد المسلمين اليوم لا يتحقق هذا الأمر، وأنه ليس في عنقهم بيعة، لأسباب كثيرة منها: الاضطرابات السياسية، والانقلابات وغيرها، فكيف يخرج المسلمون في تلك البلاد من هذا الإثم وهذا الوعيد جزاك الله خيراً؟
المعروف عند أهل العلم: أن البيعة لا يلزم منها رضى كل واحد، وإلا من المعلوم أن في البلاد من لا يرضى أحد من الناس أن يكون ولياً عليه، لكن إذا قهر الولي وسيطر وصارت له السلطة فهذا هو تمام البيعة، لا يجوز الخروج عليه، إلا في حالة واحدة استثناها النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) فقال: (إلا أن تروا) والرؤية إما بالعين أو بالقلب، الرؤية بالعين بصرية، وبالقلب علمية، بمعنى: أننا لا نعمل بالظن أو بالتقديرات أو بالاحتمالات بل لابد أن نعلم علم اليقين، وأن نرى كفراً لا فسوقاً، يعني مثلاً: الحاكم لو كان أفسق عباد الله، عنده شرب خمر، وغيره من المحرمات، وهو فاسق لكن لم يخرج من الإسلام؛ فإنه لا يجوز الخروج عليه وإن فسق؛ لأن مفسدة الخروج عليه أعظم بكثير من مفسدة معصيته التي هي خاصة به.
الثالث قال: (بواحاً) البواح يعني: الصريح، والأرض البواح: هي الواسعة التي ليس فيها شجر ولا مدر ولا جبل بل هي واضحة للرؤية، لابد أن يكون الكفر بواحاً ظاهراً ما يشك فيه أحد، مثل: أن يدعو إلى نبذ الشريعة، أو أن يدعو إلى ترك الصلاة، وما أشبه ذلك من الكفر الواضح الذي لا يحتمل التأويل، فأما ما يحتمل التأويل فإنه لا يجوز الخروج عليه حتى وإن كنا نرى نحن أنه كفر وبعض الناس يرى أنه ليس بكفر، فإننا لا يجوز لنا الخروج عليه؛ لأن هذا ليس بواحاً.
الرابع: (عندنا فيه من الله برهان) (أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) فإن لم يكن عندنا برهان أي: دليل واضح، ليس مجرد اجتهاد أو قياس، بل هو بين واضح أنه كفر، حينئذٍ يجوز الخروج.
ولكن هل معنى جواز الخروج أنه جائز بكل حال، أو واجب على كل حال؟ الجواب: لا.
لا بد من قدرة على منابذة هذا الوالي الذي رأينا فيه الكفر البواح، أما أن نخرج عليه بسكاكين المطبخ، وعواميل البقر، ولديه دبابات وصواريخ، فهذا سفه في العقل وضلال في الدين، لأن الله لم يوجب الجهاد على المسلمين حين كانوا ضعفاء في مكة ما قال: اخرجوا على قريش وهم عندهم، ولو شاءوا لاغتالوا كبراءهم وقتلوهم، لكنه لم يأمرهم بهذا، ولم يأذن لهم به، لماذا؟ لعدم القدرة.
وإذا كانت الواجبات الشرعية التي لله عز وجل تسقط بالعجز فكيف هذا الذي سيكون فيه دماء، يعني: ليس إزالة الحاكم بالأمر الهين، أو مجرد ريشة تنفخها وتروح، لابد من قتال منك وقتال منه، وإذا قتل فله أعوان، فالمسألة ليست بالأمر الهين حتى نقول بكل سهولة: نزيل الحاكم ونقضي عليه وينتهي كل شيء.
فلابد من القدرة، والقدرة الآن ليست بأيدي الشعوب فيما أعلم والعلم عند الله عز وجل، ليس في أيدي الشعوب قدرة على إزالة مثل هؤلاء القوم الذين نرى فيهم كفراً بواحاً، ثم إن القيود التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم قيود صعبة، من يتحقق من هذا الحاكم مثلاً، علمنا أنه كافر علم اليقين، نراه كما نرى الشمس أمامنا، ثم علمنا أن الكفر بواح ما يحتمل التأويل، ولا فيه أي أدنى لبس، ثم عندنا دليل من الله وبرهان قاطع؛ هذه قيود صعبة، أما مجرد أن يظن الإنسان أن الحاكم كفر، هذا ما هو صحيح أنه يكفر، لابد من إقامة الحجة، وأنتم تعلمون أنه ما ضر الأمة من أول ما ضرها في عهد الخلفاء الراشدين إلا التأويل الفاسد، والخروج على الإمام.
الخوارج لماذا خرجوا على علي بن أبي طالب؟ قالوا: لأنه حكَّم غير القرآن.
كانوا في الأول معه على جيش معاوية ولما رضي بالصلح والتحاكم إلى القرآن قالوا: خلاص أنت الآن حكمت آراء الرجال ورضيت بالصلح فأنت كافر، فسوف نقاتلك.
فانقلبوا عليه بماذا؟ بالتأويل، وليس كل ما رآه الإنسان يكون هو الحق، قد ترى أنت شيئاً محرماً، أو شيئاً معصية، أو شيئاً كفراً، وغيرك ما يراه كذلك، أليس نرى نحن أن تارك الصلاة كافر؟ نرى ذلك لا شك، يأتي غيرنا ويقول: ليس بكفر.
والذي يقول: ليس بكفر علماء ليس ناس أهل هوى، علماء لكن هذا الذي أدى لهم اجتهادهم، فإذا كان العلماء من أهل الفقه قد يرون ما هو كفر في نظر الآخرين ليس بكفر فما بالك بالحكام الذين بعضهم عنده من الجهل ما عند عامة الناس.
فالمهم أن هذه المسائل مسائل صعبة وخطيرة، ولا ينبغي للإنسان أن ينساب وراء العاطفة أو التهييج، بل الواجب أن ينظر بنظر فاحص متأنٍ متروي، وينظر ماذا يترتب على هذا الفعل، ليس المقصود أن الإنسان يبرد حرارة غيظته فقط، المقصود إصلاح الخلق، وإلا فالإنسان لا شك أنه يلحقه أحياناً غيرة ويمتلئ غيظاً مما وقع، أو وقع من بعض الولاة، لكن يرى أن من المصلحة أن يعالج هذه المشكلة بطريق آخر غير التهييج.
وكما قلت لكم: إن بعض الناس يظن أن هذا سببٌ يقتضي الضغط على ولي الأمر حتى يفعل ما يرى هذا القائل أنه إصلاح، ولكن هذا غير مناسب في مثل بلادنا.