تفسير قوله تعالى: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد)
فيقال: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:٢٤] : قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} قد يُشكل على طالب العلم؛ لأنه قال: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} القرين مفرد وهنا {أَلْقِيَا} فيها ألف التثنية، فكيف صح أن يخاطَب الواحد بخطاب الاثنين؟! اختلف المفسرون في الجواب عن هذا: فقال بعضهم: {أَلْقِيَا} ثنيت الجملة أو اتصل بها ضمير التثنية بناءً على تكرار الفعل فيكون قوله: ((أَلْقِيَا)) مثل قوله: ألقِ ألقِ، فالتكرار إذاً للفعل لا للفاعل، هذا قول.
القول الثاني: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} إما أن يكون مفرداً مضافاً، والمعروف أن المفرد المضاف يكون للعموم، فيشمل كل ما ثبت من قرين، وعلى هذا فيكون {وَقَالَ قَرِينُهُ} أي: الملَكان الموكَّلان به.
فإذا قال قائل: أروني دليلاً أو شاهداً على أن المفرد يكون لأكثر من واحد.
قلنا: مرحباً، يقول الله عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:٣٤] وهل نعمة الله واحدة؟! لا؛ لأن الله تعالى قال: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:٢٠] ؛ لكن نعمة الله مفرد مضاف فيكون شاملاً لكل نعمة.
ويمكن أن يقول قائل: إن قوله: {وَقَالَ قَرِينُهُ} هو: واحد من الملكَين، ولا شك أنه يجوز أن يتكلم واحد من الاثنين باسم الاثنين.
وعلى كل حال فيكون قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} على بابه، أي: أن الضمير هنا ضمير تثنية الفاعل.
{كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [ق:٢٤-٢٦] ستة أوصاف: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} : و (كَفَّار) أما أن يقال: إنها صيغة مبالغة؛ لأن هذا الكافر قد فعل أنواعاً من الكفر، فإذا جمعت الأنواع صارت كثيرة.
وقد يقال: إن هذه الصيغة ليست صيغة مبالغة وإنما هي صيغة نسبة، كما يقال: نجار وحداد وما أشبه ذلك ممن يُنسب إلى هذه الحرفة، فيكون المعنى كَفَّار أي: كافر؛ لكن قد تمكن الكفر في قلبه والعياذ بالله.
{عَنِيدٍ} أي: معاند للحق، لا يقبل مهما عُرِض له الحق بصورة شيقة بينة واضحة لا يقبل.
الوصف الثالث: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} يمنع الخير، فيمنع الدعوة إلى الله، ويمنع بذل أمواله فيما يرضي الله، ويمنع كل خير؛ لأن قوله: {لِلْخَيْرِ} لفظ عام يشمل كل خير، وقوله: {مَنَّاعٍ} كأنه يلتمس كل خير فيمنعه، فتكون هذه الصيغة صيغة مبالغة.
{مُعْتَدٍ} أي: يعتدي على غيره، يعني: ليته يمنع غيره من الخير، بل يعتدي عليه، انظروا -مثلاً- إلى كفار قريش، ماذا صنعوا مع الرسول؟! منعوه من الخير واعتدوا عليه.
{مُرِيبٍ} أي: واقع في الريبة والشك والقلق، وكذلك أيضاً يشكك غيره فيدخل في قلبه الريبة، فكلمة مريب تقتضي وصف الإنسان بها وحمل هذا الوصف إلى غيره.
الوصف السادس: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} وما أوسع هذه الكلمة! وإذا كانت هذه الكلمة وصفاً للكَفَّار العنيد، فالمعنى: أنه يعبد مع الله غيره، وكلنا يعلم أن المشركين كانوا يعبدون مع الله غيره، فيعبدون اللات والعزى ومناة وهُبل، وكل قوم لهم طاغية يعبدونها كما يعبدون الله، يركعون لها، ويسجدون لها، ويحبونها كما يحبون الله، ويخافون منها كما يخافون من الله، نسأل الله العافية.
هذا إذا جعلنا {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} وصفاً لهذا الكافر العنيد، أما إذا جعلناها أشمل من ذلك فإنها تعم كل إنسان تعبَّد لغير الله، وتذلَّل لغير الله، حتى التاجر الذي ليس له هم إلا تجارته وتنميتها فإنه عابد لها، حتى صاحب الإبل الذي ليس له هم إلا إبله هو عابد لها، والدليل على أن من انشغل بشيء عن طاعة الله فهو عابد له، الدليل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة) عبد الدينار هذا: تاجر الذهب، عبد الدرهم: تاجر الفضة، تعس عبد الخميصة: تاجر الثياب؛ لأن الخميصة هي الثوب الجميل المنقوش، تعس عبد الخميلة: تاجر الفرش، أو ليس بتاجر؟ لا يتجر بهذه الأشياء؛ ولكنه مشغول بها عن طاعة الله، {إن أعطي رضي وإن لم يعطَ سخط) فسمَّى النبي صلى الله عليه وسلم من اشتغل بهذه الأشياء الأربعة عن طاعة الله سماه عبداً لها.
أيضاً في القرآن الكريم ما يدل على أن العبادة أوسع من هذا أيضاً قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:٤٣] فدل ذلك على أن كل من قدم هوى نفسه على هدى ربه فهو قد اتخذه إلهاً، ولهذا يمكننا أن نقول: إن جميع المعاصي داخلة في الشرك بهذا المعنى، حيث أنه قدمها على مرضاة الله تعالى وطاعته فجعل هذا شريكاً لله عز وجل في تعبده له، واتباعه إياه.
فالشرك أمره عظيم وخطره جسيم حتى الرجل إذا تصدق بدرهم وهو يلاحظ لعل الناس يرونه ليمدحوه ويقولون: إنه رجل كريم، يعتبر مشركاً مرائياً، والرياء شرك، أخوف ما خاف النبي عليه الصلاة والسلام على أمته الشرك الخفي، وهو: الرياء.
فعلى هذا نقول: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [ق:٢٦] : إن أردت أنها وصفاً خاصاً بالكَفَّار العنيد فإنها تختص بمن يعبد الصنم والوثن، وإن أردتها بالعموم فهي تشمل كل من اشتغل بغير الله عن طاعة الله، وعرفتم الأمثلة والأدلة على ما ذكرنا.
قال الله تعالى: {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:٢٦] وهو عذاب النار، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منها بمنه وكرمه.