للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (كلوا واشربوا هنيئاً)

قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:١٩] (كلوا) نعربه على أنه فعل أمر، وهذا الأمر أمر تكريم لا أمر تكليف؟ فالأمر هنا للتكريم، أي: يقال لهم: كلوا واشربوا، كلوا من كل ما في الجنة من النعيم، {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:٥٢] ، {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:٦٨] وفيها من كل النعيم.

واشربوا مما فيها من أنهار، وأنهار الجنة أربعة ذكرها الله تعالى في سورة القتال، وهي في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:١٥] .

هذه أربعة: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:١٥] معنى: (غير آسن) أي: غير متغير، المياه في الدنيا إذا لم يأتها ما يمدها وبقيت راكدة لا بد أن تتغير فتكون آسنةً، لكن ماء الجنة لا يتغير (غير آسن) .

{وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:١٥] اللبن في الدنيا إذا بقي يتغير ويفسد، لكن في الآخرة لا.

{وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:١٥] خمر الدنيا فيه رائحة كريهة، ثم فيه أنه يقلب العاقل إلى مجنون، وفيه أيضاً الصداع، وخراب المعدة، لكن في الجنة لا، {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:١٥] وقد قال الله تعالى في سورة الصافات: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات:٤٧] .

{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً} [الطور:١٩] الهنيء: هو الذي لا يكون له عاقبة سيئة، ولا تبعة من تجاوز أو إسراف.

{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:١٩] أي: بسبب ما كنتم تعملون، فالباء هنا للسببية وليست الباء للعوض أقول هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (لن يدخل الجنة أحد بعمله) وهنا قال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:١٩] فجعل الله تعالى ذلك بسبب العمل، فقال بعض العلماء: كيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحد بعمله) مع أن الله يقول: (بما كنتم تعملون) ؟!! والجواب على هذا الإشكال أن يقال: الباء تأتي للسببية وتأتي للبدلية، فإذا قيل: دخل الرجل الجنة بعمله، فالمعنى: السببية، وإذا قيل: (لن يدخل الجنة أحد بعمله) فالمعنى: البدلية، وأضرب مثلاً يبين هذا: بعتك الثوب بدرهم، الباء للبدلية، لأن الدرهم صار عوضاً عن الثوب هذه للبدلية، وإذا قلت: أدبت الولد بعبثه، هذه للسببية، إذاً كلنا لن يدخل الجنة بعمله، لأن الله سبحانه وتعالى لو حاسبنا على عملنا ما قابل عملنا نعمة من نعم الله، النفس الآن الذي هو من ضرورة الحياة، يخرج منك ويدخل بدون تعب ومشقة، وكم يتنفس الإنسان في الدقيقة؟ كثيراً، ولو أننا حوسبنا على أعمالنا بالمعاوضة والمبادلة لكانت نعمة واحدة تستوعب جميع العمل، ونحن الآن لا نحس بنعمة النفس، لكن لو أصيب أحد منا بكتم النفس لوجد أن النفس من أكبر نعم الله، لذلك نقول: إن الباء في قوله: (بما كنتم تعملون) للسببية وليست للبدلية.

وفي قوله: (بما كنتم تعملون) شمول لكل العمل: عمل الجوارح والقلب واللسان، فالجوارح هي: الأفعال كالركوع والسجود، والأقوال: كالأذكار، والقلوب: كالخوف والرجاء والتوكل وما أشبه ذلك، فكل هذه تسمى أعمالنا.