[صيام الجوارح وأهميته]
أما الذي يجب عنه الصوم, فلعلكم تستغربون إذا قلت: إن الذي يجب عنه الصوم هو: المعاصي, يجب أن يصوم الإنسان عن المعاصي, لأن هذا هو المقصود الأول في الصوم لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣] لم يقل: لعلكم تجوعون! أو لعلكم تعطشون! أو لعلكم تمسكون عن الأهل! لا قال: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) , هذا هو المقصود الأول من الصوم, وحقق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأكده بقوله: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) إذاً أن يصوم الإنسان عن معاصي الله عز وجل, هذا هو الصوم الحقيقي.
أما الصوم الظاهري فهو الصيام عن المفطرات, الإمساك عن المفطرات تعبداً لله عز وجل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس لقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:١٨٧] هذا صوم نسميه الصوم الظاهري صوم البدن فقط, أما صوم القلب الذي هو المقصود الأول، فهو الصوم عن معاصي الله عز وجل.
وعلى هذا: فمن صام صوماً ظاهرياً جسدياً، ولكنه لم يصم صوماً قلبياً فإن صومه ناقص جداً جداً, لا نقول: إنه باطل لكن نقول: إنه ناقص, كما نقول في الصلاة, المقصود من الصلاة الخشوع والتذلل لله عز وجل, وصلاة القلب قبل صلاة الجوارح, لكن لو أن الإنسان صلّى بجوارحه ولم يصلِ بقلبه، كأن يكون قلبه في كل وادٍ فصلاته ناقصة جداً, لكنها مجزئة حسب الرسم الظاهر مجزئة لكنها ناقصة جداً, كذلك الصوم ناقص جداً إذا لم يصم الإنسان عن معصية الله, لكنه مجزئ حسب الرسم الظاهري؛ لأن العبادات في الدنيا إنما تكون على الظاهر.
فنقول: إذا تناول الإنسان شيئاً من المفطرات، ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فإن صومه يكون فاسداً وعليه القضاء, وأعظم المفطرات هو الجماع, فمن جامع زوجته في نهار رمضان، وهو ممن يجب عليه الصوم فسد صومه، ولزمه إمساك بقية اليوم، ولزمه القضاء, ولزمته الكفارة, ولزمه الإثم, يعني: يترتب على جماعه في نهار رمضان إذا كان ممن يجب عليه الصوم خمسة أشياء: الإثم, فساد الصوم, لزوم الإمساك, القضاء, الكفارة, هذا إذا كان ممن يجب عليه الصوم, أما إذا كان ممن لا يجب عليه الصوم كمسافر سافر مع أهله، وصام هو وأهله ولكنه بدا له أن يتمتع بأهله، فجامع فلا شيء عليه, إلا القضاء فقط, يعني: لا يترتب عليه لا إثم ولا إمساك ولا كفارة, ليس عليه إلا القضاء, لأنه لما جامع فسد صومه لكن أفسده بشيء مباح, إذ أن المسافر يجوز له أن يفطر ولو في أثناء النهار ولو بدون سبب, وعليه القضاء.
ثم الكفارة: وهي عتق رقبة, فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين, فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً, ولا فرق بين أن يقول: أنا والله لاس أعلم أن عليّ كفارة, لو علمت أن عليّ كفارة ما جامعت, أو أن يقول: أنا أعلم أن عليّ كفارة ولكنه عجز عن إمساك نفسه, فعلى كل حال الكفارة واجبة, إذا علم الإنسان أن الجماع حرام فالكفارة عليه واجبة بكل حال, دليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله هلكت -وفي رواية: هلكت وأهلكت- فقال: ما الذي أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم, فسأله النبي عليه الصلاة والسلام عن خصال الكفارة, أعتق رقبة, قال: لا أجد, قال: صم شهرين متتابعين, قال: لا أستطيع, قال: أطعم ستين مسكيناً, قال: لا أجد, كل خصال الكفارة لا يجدها ولا يستطيعها, فجلس الرجل فجيء بتمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خذ هذا وتصدق به, قال: أعلى أفقر مني؟ والله يا رسول الله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني, فضحك النبي صلى الله عليه وسلم, حتى بدت نواجذه ثم قال: أطعمه أهلك) , ولم يقل له: إذا أغناك الله فكفر, فدل هذا على أن الكفارة تسقط في العجز عنه, وهذا هو مقتضى عموم قول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦] وعموم قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦] .