[تفسير قوله تعالى: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا)]
ثم قال عز وجل: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم:٢٩] (أعرض) الخطاب للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو المراد به كل من يصح أن يوجه إليه الخطاب، فعلى الأول يكون المعنى: اعرض يا محمد، وعلى الثاني: اعرض أيها الإنسان المؤمن.
(عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا) أي: اعرض عنه ولا تتبعه، ولا يهمنك أمره، وليس المعنى: اعرض عنه لا تنصحه، لا.
لأن التذكير واجب، قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:٥٥] ذكر كل أحد، فمن الناس من ينتفع ومنهم من لا ينتفع، والذي ينتفع هو المؤمن، فعلى هذا نقول: معنى (اعرض) أي: لا تبالِ به ولا يهمنك أمره، ولا تتحسر من أجل توليه، بل ادع إلى سبيل الله عز وجل أياً كان، لكن من أعرض وتولى لا يهمك أمره.
(اعرض عن من تولى عن ذكرنا) وهو القرآن، ويحتمل أن يكون الذكر بمعنى التذكير، أي: عن تذكيرنا، وكلا المعنيين متلازمان وصحيحان، (اعرض عن من تولى عن ذكرنا) عن القرآن، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:٤٤] {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:٦٩] أو أن المعنى: (عن ذكرنا) أي: عن تذكيرنا، بالمواعظ التي ينزلها الله عز وجل.
{وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} اللهم أعذنا من فتنة الدنيا، أي: لا يريد الآخرة ولا يهتم بها، همه الدنيا من المركوب والملبوس والمسكون، فاتبعوا ما اترفوا فيه وكانوا مجرمين، لا يهتم بالآخرة، أهم شيء عنده هي الدنيا، أما ذكر الله (القرآن) أو تذكير الله فإنه متولٍ منه -والعياذ بالله- نسأل الله السلامة والعافية.
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ولكن انظر (الحياة الدنيا) وصف هذه الدنيا من الدنو وهو القرب؛ وذلك لانحطاط مرتبتها، ولسبقها على الآخرة، لأن الدار الدنيا هي أول دار ينزلها الإنسان، وهي سابقة في الزمن على الآخرة، فهي دنيا -أي: قريبة- وهي أيضاً دنيا من حيث المرتبة ليست بالشيء بالنسبة للآخرة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها) اللهم اجعل لنا موضعاً فيها، خير من الدنيا وما فيها، ليست خيراً من الدنيا التي أنت فيها فقط، بل خير منها منذ أنشأت وخلقها الله إلى أن تفنى، موضع السوط الذي يكون بقدر المتر في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، إذاً هي دنيا، ولهذا إذا مات الإنسان وهو مؤمن -جعلنا الله وإياكم منهم- ثم حمل من بيته الذي يسكنه ويأوي إليه، وفيه أهله وماله وحشمه إذا خرج تقول روحه: قدموني قدموني، لماذا؟ لأن ما ستذهب إليه خيرٌ مما تخرج منه، قال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:١٦-١٧] لكن لمن؟ {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:٧٧] لكنها شرٌ لمن لم يتق.
يذكر أن ابن حجر العسقلاني رحمه الله وقد كان رئيس القضاة في مصر، مر يوماً من الأيام في موكبه على العربة تجره البغال وحوله الجنود برجلٍ يهودي زيات -يبيع الزيت- قد تدنست ثيابه بالزيت، وشقي في طلب المعيشة، فأوقف اليهودي الموكب، وقال لـ ابن حجر: إن نبيكم يزعم أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فكيف يتفق هذا الحديث مع الواقع؟!! أنت الآن مؤمن وهو يهودي، وأيهما أشقى؟ اليهودي في هذه المسألة أشقى فكيف يتفق مع الواقع؟!! فقال: نعم، ما أنا فيه الآن بالنسبة للآخرة سجن؛ لأن الآخرة خير لمن اتقى، وما أنت فيه من الآخرة جنة؛ لأن الآخرة مالك فيها إلا النار وبئس القرار، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، انظر كيف فتح الله عليه حيث ظهر صدق كلام الرسول عليه الصلاة والسلام بكل سهولة.
المهم أن الآخرة خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولهذا ذم الله هذا الذي أعرض عن ذكر الله ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ولنسأل: هل من أراد الحياة الدنيا تحصل له؟
لا تحصل له، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسراء:١٨] ليس ما يشاء بل {مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:١٨-١٩] ، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى:٢٠] لأنه يعطى الدنيا والآخرة {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} بعضها ليس كلها {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:٢٠] .