للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح)

يقول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:١] النصر: هو تسليط الإنسان على عدوه, بحيث يتمكن منه ويخذله ويكبته, وهو -أعني النصر-: أعظم سرور يحصل للعبد في أعماله؛ لأن المنتصر يجد نشوة عظيمة وفرحاً وطرباً, لكنه إذا كان بحق فهو خير, وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) أي: أن عدوه مرعوب منه إذا كان بينه وبينهم مسافة شهر, والرعب: أشد شيء يفتك بالعدو؛ لأن الذي حصل في قلبه الرعب لا يمكن أن يثبت أبداً, بل سيطير طيران الريح, فقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:١] أي: نصر الله إياك على عدوك, {وَالْفَتْحُ} [النصر:١] معطوف على النصر, والفتح به نصر لا شك, لكنه عطفه على النصر تنويهاً بشأنه، وهو من باب عطف الخاص بالعام, كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:٤] أي: في ليلة القدر, فالملائكة هم الملائكة والروح جبريل, وخصه بذكره لشرفه, وفي قوله: {وَالْفَتْحُ} [النصر:١] للعهد الذهني, أي: الفتح المعهود المعروف في أذهانكم, وهو فتح مكة.

وكان فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان, وسببه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشاً في غزوة الحديبية الصلح المشهور نقضوا العهد, فغزاهم النبي عليه الصلاة والسلام, وخرج إليهم مختفياً وقال: (اللهم عم أخبارنا عنهم) فلم يفاجئهم إلا وهو محيط بهم عليه الصلاة والسلام, ودخل مكة في العشرين من شهر رمضان عام (٨ هـ) منصوراً مظفراً مؤيداً, حتى إنه في النهاية اجتمع إليه كفار قريش حول الكعبة فوقف على الباب يقول: (يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟) وهو الذي كان قبل ثماني سنوات هارباً منهم, وهو الآن في قبضته وتحت تصرفه, قال: (ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم, قال: إني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف:٩٢] ) ثم منَّ عليهم عليه الصلاة والسلام بالعفو, فعفى عنهم.

هذا الفتح سماه الله تعالى فتحاً مبيناً، فقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:١] أي: بيناً عظيماً واضحاً, ولما حصل عرف العرب بل عرف الناس جميعاً أن العاقبة لمحمد صلى الله عليه وسلم, وأن دور قريش وأتباعها قد انقضى, فصار الناس يدخلون في دين الله أفواجاً -أي: جماعات- بعدما كانوا يدخلون فيه أفراداً ولا يدخل فيه الإنسان في بعض الأحيان إلا مختفياً, صاروا يدخلون أفواجاً في دين الله, وصارت النفوذ ترد على النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة من كل جانب, حتى سمي العام التاسع عام الوفود, فجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً.