تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم)
ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [الحجرات:٥] {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} أي: من بيتك, وتكلمهم بما يريدون, {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} في أنهم يلتزمون الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وحاجتهم سوف تقضى, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأته أحد في حاجة إلا قضاها إذا كان يدركها, وهو أحق الناس بقول الشاعر:
ما قال: (لا) قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:٥] إشارة إلى أن الله غفر لهم ورحمهم, وهذا من كرمه جل وعلا أنه يغفر ويرحم, وقد أخبر الله تعالى في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:٤٨] أي: ما سوى الشرك {لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] فكل أحد أذنب ذنباً دون الشرك مهما عظم فإنه تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ما لم يتب, فإذا تاب فلا عذاب؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:٦٨-٧٠] .
هنا قلنا: إن الآية تدل على أن الله غفر لهم ورحمهم, فمن أين نأخذ هذه الدلالة؟ نأخذها من أن الله ختم الآية بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:٥] وهذا يدل على أنه غفر لهم ورحمهم, ولذلك قال العلماء في قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:٣٣-٣٤] أخذ العلماء من هذه الآية: أن هؤلاء المفسدين المحاربين لله ورسوله إذا تابوا قبل القدرة عليهم سقط عنهم العذاب, واستدلوا بأن الله ختم الآية بقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:٣٤] أي: قد غفر لهم ورحمهم, وهذه نكتة ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها في الآيات, أن ختم الآية بعد ذكر الحكم دليل على ما تقتضيه هذه الأسماء التي ختمت بها الآية, ولهذا قرأ رجل: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم) , فسمعه أعرابي عنده، فقال له: أعد الآية فأعادها وقال: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم) , قال له: أعد الآية, فأعادها فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:٣٨] فقال: الآن -أي: الآن أصبت- ثم علل قال: لأنه لو غفر ورحم ما قطع, ولا تتناسب المغفرة والرحمة مع القطع, لكنه عزّ وحكم فقطع.
فتأمل هذا الفهم فإنه مفيد لك جداً.
الشاهد من هذا أن قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:٥] أن الآية تدل على أن الله غفر لهم ورحمهم.