[مسألة التورق من التحايل على الحرام]
عفا الله عنكم يا شيخ! توجد الآن بعض الشركات تقول لأي شخص: من أراد بيتاً أو سيارةً في أي مكان يأتي ويخبرنا بهذا البيت أو بهذه السيارة فنشتري له هذا البيت أو هذه السيارة، ثم نقسط عليه ثمن هذا البيت أو هذه السيارة أقساطاً، وفي نفس الوقت لا تُلْزِم هذه الشركةُُ إذا أخَذَت لهذا الشخص هذا البيت أو هذه السيارة، لا تلزمه بأخذ هذا البيت أو السيارة، فهو بالخيار، إن أراد أن يشتري أو أراد أن يرجع في كلامه.
فما حكم هذا البيع جزاكم الله خيراً؟
هذه المعاملة فَشَت في الناس كثيراً، وهي -في الحقيقة- من الناحية الشرعية غير جائزة، ومن الناحية الاقتصادية ضارة.
فأما كونها غير جائزة من الناحية الشرعية: فمن المعلوم أنك لو أتيتَ إليَّ وقلتَ: أريد أن أشتري السيارة الفلانية بخمسين ألف ريال فأعطني (٥٠.
٠٠٠) ريال، وأعطيك بعد سنة (٦٠.
٠٠٠) ريال، فهل هذه المسألة جائزة، أو غير جائزة؟! غير جائزة، ولا إشكال في ذلك.
فشراء التاجر أو الشركة لهذه السيارة ليس إلا من أجل الوصول إلى هذه العشرة آلاف الزيادة التي كانت في الأول غير جائزة، والآن صارت بهذه الحيلة جائزة، فلا يمكن هذا، فإن المحرم محرم، ولا يزيد بالتحايُّل عليه إلا قُبْحاً، فهذه بمنزلة أن أقول: خذ (٥٠.
٠٠٠) واشترِ السيارة التي تريد، وبعد سنة أعطني (٦٠.
٠٠٠) ريال، لا فرق أبداً، إلا أن هذه الصورة التي ذكرتَ؛ أن يشتريها التاجر من المعرض ثم يبيعها عليك ما هي إلا مجرد حيلة فقط؛ فلولاك ما اشتراها لك، ولا فكَّر في شرائها، ولهذا تجده يحتاط لنفسه، فيذهب ليستطلع البيت وينظر هل يساوي هذا البيتُ الثمنَ أم لا يساويه، والسيارة كذلك، فهو يحتاط احتياطاً تاماً.
ثم إذا قُدِّر أنه اشتراه وتراجَعْتَ أنت عنه كَتَبَك في القائمة السوداء، فلا يعاملك بعد هذا أبداً، ثم إن كلمة: (إذا شاء رَدَّه قَبِِلْنا) ، هي كذَرِّ الرماد في العيون -كما يقولون-؛ فلا تظن أن هذا الرجل الذي أراد هذا البيت أو هذه السيارة أو هذه الأرض، واستعد للزيادة، لا تظن أنه يتراجع، فالرجل له غرض في هذا، ولا بد أن يشتري، ولو أنك أحصيت مَن تراجع، ما وجدتَ واحداً في الألف.
لذلك نرى أن هذه المعاملة حرام، وأنها حيلة على الربا بشراءٍ صوريٍّ ليس مقصوداً بذاته.
وإذا كان شيخ الإسلام -رحمه الله- يحرم التورُّق، وكذلك الإمام أحمد، وغيرهما من العلماء، والتورُّق: هو طلب العين الموجودة عند البائع، فهذا أخبث وأشد.
وبنو إسرائيل لما حُرِّمت عليهم الشحوم قالوا: لا نأكل الشحم؛ لكن نذيب الشحم، ونبيعه ونأكل ثمنه.
فأيهما أقرب للمحرم: هذه الحيلة، أو الحيلة التي ذكرتَ؟! الحيلة التي ذكرتَ أقرب؛ لأنها تصل إلى المحرم في أول درجة، أما حيلة بني إسرائيل فلا تصل إلى المحرم إلا بعد ثلاث درجات، ومع ذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (قاتل الله اليهود! لَمَّا حُرِّمت عليهم الشحوم جَمَلوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه) .
فهذه والله حيلة على المحرم، وليس عندي إشكال في تحريمها، والإنسان الناصح لنفسه يبتعد عنها، وإن أفتاه الناس وأفتوه، والعبرة بالمقاصد لا بالصور، والتاجر ما قصد من الربح إلا الربا، ولا قصد بشراء السيارة إلا الربا.
ولكن نقول: نعم، لو كانت السيارة عنده موجودة، وباعها عليك بأكثر من ثمنها حاضراً، وأنت تريد السيارة نفسها، أو تريد أن تتكسب بها، فتشتريها من هذه البلاد وتبيعها في البلاد الأخرى للتتكسب بها، فهذا ليس فيه إشكال، وجائز.
أما إن اشتريتَها مِن عندِه وهي عندَه، وتريد أن تبيعَها وتأخذَ ثمنها فهذه هي مسألة التورُّق، وفيها خلاف بين العلماء، وشيخ الإسلام ابن تيمية يرى أنها حرام، وهي رواية عن الإمام أحمد.
ولو قال قائل: إن الربا الصريح أهون من المعاملة التي ذُكِرَت، فإن قوله لن يكون بعيداً من الصواب؛ لأن هذه المعاملة جمعت بين الحيلة والتحايل على الله عز وجل وبين الربا، فمفسدة الربا موجودة، وهي الزيادة التي أخذها هذا التاجر، فنسأل الله الهداية.
والحقيقة: أن الإنسان إذا رأى هذه المعاملات، ورأى معاملة البنوك، ورأى معاملة الميسر التي بدأت الآن تكثر؛ كالتأمين وما أشبه ذلك، يخشى والله من العقوبة؛ فإذا كان بنو إسرائيل يعذَّبون بأقل من هذا، فإننا والله لنَخْشى.
فلَمَّا حُرِّم عليهم صيد الحيتان يوم السبت ابتلاهم الله عز وجل، فصارت الحيتان تأتي يوم السبت شُرَّعاً على الماء، وغير يوم السبت لا يرون الحيتان، فتحايلوا فنصبوا شَبَكاً يوم الجمعة، وأخذوا الحيتان يوم الأحد، وقالوا: نحن لم نصد يوم السبت، الصورةُ أنهم لم يصيدوا صحيح؛ لكن في الحقيقة أنهم صادوا.
فالعبرة -يا إخواني- بحقائق الأمور لا بصورها.
فنحن نخشى من عقوبة تحل بنا بواسطة هذه الأمور، فلو كنا نبيع ونشتري على حسب الشرع، مبتعدين عن الحِيَل، وخداع رب العالمين لكان هذا أنفع وأبرك لنا.
فتبيَّن لنا من الناحية الشرعية أنها لا تجوز.
وأما كون هذه المعاملة ضارة من الناحية الاقتصادية، فإنها قد فتحت للفقراء باب التكالب على الديون لهذا السبب، فصار يهُون عليهم أن يشتري أحدهم السيارة بسبعين ألفاً؛ لأنه سيذهب إلى التاجر ويأخذها بكل سهولة؛ لكن لو لم تكن هذه الطريقة لذهب ليشتري له سيارة بستة عشر ألفاًَ على قدر حاجته، وعلى قدر ما عنده، فهذه المعاملة أثقلت كواهل كثير من الناس، وجرَّأتهم على التَدَيُّن، لا أقصد التَّدَيُّن مِن الدِّيْن، وإنما مِن الدَّيْن، فجرَّأتهم على التَّدَيُّن من الناس، حتى إذا مات وُجِد أن عليه مئات الألوف، وكل ذلك بسبب هذه المعاملة.
لهذا فنحن نحذِّر منها شرعياً واقتصادياً، ونقول: (ومَن يستغنِ يُغْنِهِ الله) .
(ومَن تَرَكَ شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه) .
السائل: ولكن الناس لا يدرون شيئاً عن هذا.
الشيخ: والله يا أخي نحن لنا فتوى في هذا، كتبنا فيه فتوى.
السائل: المشكلة أن بعض هذه الشركات تدَّعي أن عندها لجنة شرعية، وأن هذه اللجنة الشرعية أفتت بجواز هذا -يا شيخ-! الشيخ: على كل حال: الذي يلزمنا نحن البيان، وقد بيَّنا الآن، فمن سمع هذا الكلام فإن اقتنع به ورأى أن الحيلة لا تجعل الحرام حلالاً فليحمد الله على الهداية، ومن لم يقتنع فلكلٍّ درجاتٌ مما عملوا.
السائل: بعض الناس الآن صاروا يشتركون ثلاثةً أو أربعةً في شراء سيارة من أجل التقسيط.
الجواب: لا بأس، بشرط ألا يكون من مسألة التورُّق، فمثلاً الآن -انتبه! -: إذا اشتريتَ سيارة بالتقسيط فلها ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تشتريها بالتقسيط لتَكُدَّها، سواء كان الكَدُّ للأجرة أو لحاجاتك، فهذه جائزة، ولا خلاف فيها.
الوجه الثاني: أن تشتريها لتتكسب بها لا لدفع حاجتك، فأنت لستَ محتاجاً؛ لكنك اشتريتَها من هذا البلد لتبيعها في بلد آخر بزيادة، فهذه أيضاً ليس فيها شيء.
الوجه الثالث: أن تشتريها لحاجتك إلى الدراهم؛ لكن ما وجدتَ أحداً يقرضك، فلجأتَ إلى هذه الطريقة، فهذه يسميها العلماء: مسألة التورُّق، وفيها الخلاف الذي ذكرتُ لكم.