[وسائل المباح مباحة ووسائل الواجب واجبة]
وسائل الاتصالات يا شيخ! الآن كما تعلم عندما نرجع إلى حوالي عشرين سنة من الآن بدأ الراديو وحصل عليه ملاحظات بتحريمه وما إلى ذلك، ثم بدأ التلفاز الذي يُبَث من مناطق قريبة وحصلت ملاحظات تحريمه كذلك كما تعلم، والآن بدأ الدش الذي يُبَث من أماكن بعيدة، وهذا هو تطور العلم وقال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٨] أرجو تعليقك على هذا الموضوع؛ لأن الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور متشابهات، جزاك الله خيراً يا شيخ!
تعليقنا على هذا أني أخبرك ومَن سمع ويسمع: أن كل شيء يكون جديداً لابد أن يبحثه الناس، والغالب أنهم يختلفون فيه.
فحَدَثَ الدخان قبل مدة طويلة وبعد حدوثه اختلف الناس فيه هل هو حرام أو غير حرام، واضطربت الأقوال فيه وانتهى الأمر بعد تطور الطب ومعرفة النافع والضار من المأكول والمشروب انتهى الطب إلى أن يجزم الإنسان بتحريمه.
ثم حدث -كما تفضلتَ- الراديو واختلف الناس فيه.
بل قبله حدثت البرقية، واختلف الناس فيها، وكسَّرها أناس من الخلق وقالوا: هذه شياطين.
وكذلك جاء الراديو وقيل: هذا حرام وهذا لا يجوز، وهذه شياطين.
وكذلك جاء المسجل.
حتى اختلف الناس في مكبر الصوت في المساجد على الرغم من أنه يَبُثُّ الخطبة ويبث ما فيه الخير؛ لكن قالوا: هذا لا يجوز.
المهم أن الله عز وجل جعل لنا ميزاناً نزن به كل شيء، فقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:٥٩] .
وقال عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:١٠] أليس كذلك؟ حسن جعل الله لنا موازين نرجع إليها، فمثلاً: في العبادات: الميزان في العبادات أن الأصل في العبادات المنع وأنه لا يجوز للإنسان أن يتعبد لله بأي عمل من الأعمال قولي أو فعلي وبأي عقيدة من العقائد إثباتاً أو نفياً إلا بإذن من الله ورسوله، لا يمكن أن يتعبد الإنسان عبادة إلا إذا عَلِمْنا أنها مشروعة فالأصل في العبادات المنع، حتى يقوم دليل على أنها مشروعة، أي إنسان يتعبد عبادة لا نعرفها نقول: يا أخي! اصبر، هذا حرام، إذا قال: ما الدليل؟ نقول: الدليل عليك أنت، أنت الذي تثبت أن هذه مشروعة، وإلا فإنها مردودة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ) نحن لا نقول لك: مردودة مِن أنفسنا نقول بقول الرسول عليه الصلاة والسلام.
أفهمتَ يا أخي؟! خذ هذه قاعدة.
غير العبادات الأصل فيها الحل؛ لأن الله قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:٢٩] كل ما خلق الله في الأرض من أعيان أو منافع، أو أي شيء آخر فإنه حلال، فإذا قال لنا إنسان: هذا حرام، قلنا: ما الدليل؟ ولهذا نقول: الراديو حلال.
المسجل حلال.
مكبر الصوت حلال.
يبقى إعادة النظر، هذا الذي نقول له: حلال؛ لأي شيء يكون وسيلة، إذا كان وسيلة للحرام أو كان ما يُبَث به حرام فإنه يكون حرام؛ لأن لدينا قاعدة شرعية: ووسائل الحرام حرام، وسائل الواجب واجبة.
فعلى هذا نقول: لا شك أن الراديو والتلفاز وما جاء بعده من التلفاز العام -البث العام- الذي يُتَوَصَّل إليه بالدشوش لا شك أنه يَبُثُّ أشياء تدمر العقيدة والأخلاق والمعاملات؛ ولكن هذا ليس على سبيل العموم، إنما بالتتبع والأخبار عن هذه الأشياء العامة التي تُبَثُّ من بلاد بعيدة بواسطة الدش، المسموع: أن ضررها أكثر بكثير من نفعها، والإنسان العاقل الذي يعرف موارد الشريعة ومصادر الشريعة لا يشك في أن اقتناءها حرام.
الآن بعدما عرفنا ما يبث فيها من أخلاق سافلة، لا يفعلها ولا الحمير، أخلاق مدمرة للشباب والشابات، فأنا من هذا المكان وفي كل مكان أقول: إنها حرام، وأنه لا يجوز اقتناؤها؛ لأن الذين يقتنونها الآن غالبهم لا يقتنونها إلا للشر والاطلاع على ما يكون فيها من البلاء وإثارة الشهوة، وربما يكون الإنسان ضعيف الجنس -جنس الشهوة- فيتوصل إلى تقويتها بما يشاهده من المشاهد الفاسدة لينال شهوته، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:٤٤] وقد قال الله تعالى عن الذين كفروا: إنهم {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:١٢] .
أقول: مع الأسف الشديد إن هذه الدشوش انتشرت انتشاراً فظيعاً، انتشار النار في الهشيم، وأصبح كثير من الناس يقتنيها الآن ولا يدرون ما عاقبتها، ولكني بما سمعتُ من أخبارها وما يُنْشَر فيها أقول: إنها حرام.
وإذا قدَّرنا أن فيها فائدة من مائة مضرة، فالله يقول في القرآن الكريم: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:٢١٩] إثم مفرد ومنافع للناس كثيرة، ومنافع صيغة منتهى الجموع، يعني: أكثر ما يكون من الجمع، {وَإِثْمُهُمَا} [البقرة:٢١٩] وهو واحد {أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:٢١٩] وحرمهما الله عز وجل؛ لأن الإثم أكبر مع أن المنافع كثيرة.
الإثم الذي يحصل بهذا الدش، ولو قدرنا أنه يحصل فيه مشاهد عظيمة كثيرة من منافع، لو قدرنا أنه -مثلاً- نُشاهد فيه معارك المسلمين مع الكفار، نشاهد فيه الحج، ونُشاهد فيه الجمعة، ونستمع إلى خطبة الجمعة، ونشاهد فيه محاضرات قيمة نافعة.
إلى آخره، هذه منافع كثيرة؛ لكنَّ ضرراً واحداً كبيراً يدمر الخلق، هو نظير الخمر والميسر، ما دام أن هذه المضرة والمفسدة الواحدة تدمر أخلاقاً كثيرةً كما في القول بالتحريم.
لذلك أنا أنصح كل إنسان عنده من هذا الدش شيئاً أن يكسِّره ابتغاء رضوان الله عز وجل حتى يقطع عن نفسه الرجوع إليه مرة أخرى.
ولنا في سليمان بن داود أحد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أسوة لَمَّا ألْهَتْه الخيل عن ذكر الله ماذا صنع؟ قال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص:٣٣] بعضُها يعقرها وبعضها يقطع عنقها؛ لئلا تدعوه نفسه إلى الاشتغال بها مرة أخرى.
وكعب بن مالك رضي الله عنه لما جاءته الورقة؛ وثيقة من ملك غسان يقول -لما بلغه أن الرسول عليه الصلاة والسلام هجره لتخلفه عن غزوة تبوك جاءه كتاب من ملك غسان - يقول: [الحق بنا نواسِك، قد بلغنا أن صاحبَك قلاك -إثارة- بلغنا أن صاحبَك قلاك -يعني: يثيره ثم يرغِّبه- الحق بنا نواسك] يعني: نجعلك مثلنا ملكاً، ماذا صنع رضي الله عنه؟ أخذ الورقة وذهب يوقدها في التنور؛ حتى لا تحدثه نفسه بعد أن يأخذ هذه الوثيقة ويذهب بها إلى هذا الرجل ويقول: أنت قلت: الحق بنا نواسك، اجعل لي من ملكك نصيباً.
فالحاصل -يا أخي- أني أقول لك، ولِمَن يسمع، ولِمَن سمع، أقول: إن الإنسان يجب عليه أن يتقي الفتنة ما استطاع، ويدعها.