للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض)

قال عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:٢٢] أي: أن جميع المصائب التي تصيب الإنسان في الأرض أو في نفسه قد كتبت من قبل، المصيبة في الأرض كالجدب وقلة الأمطار، غور المياه وصعوبة منالها، وربما يقال أيضاً: الفتن والحروب وغيرها {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} أي: في نفس الإنسان ذاته من مرض، أو فقد حبيب، أو فقد مال، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها.

{إِلَّا فِي كِتَابٍ} وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير كل شيء (لما خلق الله سبحانه وتعالى القلم قال له: اكتب.

قال: رب! وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) سبحان الله! ما أعظم هذا اللوح الذي يسع كل شيء إلى يوم القيامة، ولكن ليس هذا بغريب على قدرة الله عز وجل، لأن أمر الله {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢] ولقد كان الإنسان يتعجب من قبل ولا يستبعد أن يكتب في هذا اللوح مقادير كل شيء، والآن ظهر من صنع الآدمي قطعة صغيرة مسجل فيها آلاف الكلمات، أليس كذلك؟ بلى وتسمى الليزر، وهو عبارة عن لوحة صغيرة كالقرص تسجل فيها آلاف الكلمات، قد يسجل فيها جميع كتب الحديث المؤلفة، أو جميع التفاسير، أو جميع كتب الفقهاء وهي من صنع الآدمي، فكيف بصنع من يقول للشيء: كن فيكون، لما قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فالمصائب التي تصيب الناس هل هي في أمر سابق؟ أو هي مستأنفة؟

الأول، ولهذا قال: {إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد:٢٢] .

قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:٢٢] (الهاء) في قوله: (نبرأها) قيل: إنها تعود على مصيبة، وقيل: على الأرض، وقيل: على الأنفس، وقيل: على الجميع، والصحيح أنها على الجميع، أي: من قبل أن نبرأ كل هذه الأشياء، أي: أن نخلقها، وذلك أن الله كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وخمسين ألف سنة مدة طويلة وهذا مكتوب.

إذاً {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} الضمير يعود على ماذا؟ أن نبرأ الأرض؟ أن نبرأ المصيبة؟ أن نبرأ الأنفس؟ أن نبرأ الجميع؟ الجميع.

و (نبرأها) أي: نخلقها، بكم مدة؟ قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:٢٢] أي: إن كتابة هذه المصائب يسير على الله عز وجل، كيف يسره؟ لأنه قال للقلم: اكتب فكتب، وهذا يسير أم صعب؟ يسير، كلمة واحدة حصل بها كل شيء {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:٢٢] كل شيء فهو يسير على الله، لأن الأمر كلمة واحدة (كن فيكون) أرأيتم الخلائق يوم القيامة تبعث بكلمة واحدة، قال الله عز وجل: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:٥٣] وقال عز وجل: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:١٣-١٤] أي: على وجه الأرض خرجوا من القبور، هذا يسير والله.

ولما قال زكريا لله عز وجل حين بشره بالولد: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} [مريم:٨] قال الله عز وجل: {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم:٩] فأنا أوجدتك من قبل أن تكون، فبقدرتي أن يكون لك ولد بعد المدة الطويلة.

والله عز وجل لا يعجزه شيء، ولا يستعصي عنه شيء، ولا يتأخر عن أمره الكوني شيء {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:٢٢] .