[نصيحة لمن يخوضون في أعراض العلماء وولاة الأمور]
فضيلة الشيخ! في بعض المجالس يخوض بعض الناس في كثير من طلبة العلم والعلماء، يجرحون ويعدلون! فنريد نصيحة لهؤلاء لكي يشتغلوا بما ينفعهم؟
من المعلوم أن الغيبة من كبائر الذنوب، والغيبة: ذكرك أخاك بما يكره، هكذا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حذر الله عنها في كتابه بأبلغ تحذير فقال جل وعلا: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:١٢] من الذي يقدم له لحم أخيه ميتاً فيأكله؟ لا أحد يأكله، كلٌ يكرهه، وهذا تمثيلٌ يستفاد منه غاية التحذير من الغيبة، وإذا كانت الغيبة في ولاة الأمور من العلماء أو الأمراء كانت أشد وأشد؛ لأن غيبة العلماء يحصل بها انتقاصهم، وإذا انتقص الناس علماءهم لم ينتفعوا من علمهم بشيء فتضيع الشريعة، وإذا لم ينتفع الناس بعلم العلماء فبماذا ينتفعون؟ أبجهل الجهال؟ أم بضلالة الضلال؟ ولهذا نعتبر الذي يغتاب العلماء قد جنى على الشريعة أولاً، ثم على هؤلاء العلماء ثانياً، ووجه الجناية على الشريعة ما ذكرته أنه يستلزم عدم قبول ما تكلم به هؤلاء العلماء من شريعة الله؛ لأنهم قد نقص قدرهم وسقطوا من أعين الناس فلا يمكن أن ينتفعوا بعلمه، وأما كونه غيبةً للشخص فهذا واضح.
أما الأمراء فغيبتهم أيضاً أشد من غيبة غيرهم؛ لأنها تتضمن الغيبة الشخصية التي هي من كبائر الذنوب، وتتضمن التمرد على الأمراء وولاة الأمور؛ لأن الناس إذا كرهوا شخصاً لم يستجيبوا لتوجيهاته ولا لأوامره، بل يضادونه ويناوئونه، فيحصل بهذا شر عظيم؛ لأن قلوب الرعية إذا امتلأت حقداً وبغضاً لولاة الأمور انفلت الزمام، وحل الخوف بدل الأمان، وهذا شيء مشاهد ومجرب.
ولهذا نرى أن الواجب على عامة الناس وعلى طلبة العلم بالأخص إذا سمعوا عن عالمٍ ما لا يرونه حقاً أن يتثبتوا أولاً من صحة نسبته لهذا العالم، كم من أناس نسبوا إلى العلماء ما لم يقولوه! ثم إذا ثبت عنده أنه قاله يجب عليه من باب النصيحة لله عز وجل ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين أن يتصل بهذا العالم يقول: بلغني عنك كذا وكذا، فهل هذا صحيح؟ فإما أن ينكر وحينئذٍ نطالب من نقل عنه هذا القول بالبينة، وإما أن يقر فإذا أقر أبين له وجهة نظري، أقول: هذا القول الذي قلته غير صحيح، فإما أن يقنعني وإما أن أقنعه، وإما أن يكون لكلٍ منا وجهٌ فيما قال، فيكون هو معذوراً باجتهاده وأنا معذورٌ باجتهادي وليس أن أتكلم في عرضه؛ لأنني لو استبحت لنفسي أن أتكلم في عرضه لكنت أبحت له أن يتكلم هو أيضاً في عرضي وحينئذٍ يحصل التنافر والعداوة والبغضاء.
أما الأمراء فهم الأمر الثاني أيضاً، فالكلام في الأمراء كثير وتعرفون ذلك، أضرب لكم مثلاً سهلاً: إذا أمر ولي الأمر بشخص أن يؤدب تأديباً شرعياً يستحقه شرعاً فهل هذا المؤدب مع ضعف الإيمان في عصرنا هل سيقبل هذا الأدب ويرى أنه حق؟ أم يرى أنه ظلم وأن هذا الأمير معتدٍ عليه؟ الثاني: هذا الواقع، يعني: لسنا في عصر كعصر الصحابة يأتي الرجل يقول: يا رسول الله! زنيت طهرني.
فإذا أمر ولي الأمر أن يؤدب هذا الرجل صار يشيع -كما قال بعض العلماء عن شخصٍ أشاع عنه قضية معينة فيما سلف، قال: إنك شخصٌ تذيع الشكية وتكتم القضية- ويشكي الناس أنه مظلوم وأن هذا -أي: ولي الأمر- ظالم وما أشبه ذلك.
إذاً: غيبة ولاة الأمور تتضمن محذورين: المحذور الأول: أنها غيبة رجل مسلم.
والمحذور الثاني: أنها تستلزم إيغار الصدور على الأمراء وولاة أمورهم وكراهتهم وبغضهم وعدم الانصياع لأمرهم؛ وحينئذ ينفلت زمام الأمان، ولهذا ما نرى من المنشورات التي تنشر في سب ولاة الأمور أو الحكومة نرى أن هذا محرم وأنه لا يجوز للإنسان أن ينشرها؛ لأنه إذا نشرها معناه أنها غيبةٌ لإنسان لا نستفيد من نشرها بالنسبة إليه شيئاً، لا نستفيد إلا أن القلوب تبغضهم وتكرههم، لكن هل هذا سيحسن من الوضع إذا كان الوضع سيئاً؟ أبداً.
فلا يزيد الأمر إلا شدة، فنرى أن نشر مثل هذه المنشورات أن الإنسان آثمٌ بها؛ لأنه غيبة بلا شك، وأنه يوجب أن تكره الرعية رعاتها وتبغضهم ويحصل بهذا مفسدة عظيمة.
وحتى لو فرضنا صحة ما جاء في هذه المنشورات، مع أننا لا ندري هل هو صحيح أو أنه كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) .
لكن على تسليم أنه صحيح وأنه صدق هل يحل لنا نشره وهو غيبة؛ لأن الغيبة: (ذكرك أخاك بما يكره) ؟ ثم إننا لو نعلم أن هذا المنشور حق وأنه سيحل المشكلة لكنت أول من ينشر هذا وأول من يوزعه، لكن نعلم أنه يحتاج إلى إثبات من وجه، ويحتاج -أيضاً- إلى أن ننظر: هل نشره من المصلحة أم من المفسدة؟ ربما يترتب على نشره من المفسدة أعظم بكثير من نفس هذا الخطأ؛ ولهذا يجب على الإنسان أن يتقي الله أولاً قبل كل شيء، وألا ينشر معايب الناس بدون تحقق، وألا ينشر معايب الناس إلا إذا رأى أن المصلحة في نشرها، أما إذا كان الأمر بالعكس فقد أضاف إلى مفسدة نشر معايب الناس مفسدة أخرى، والله حسيبه، وسوف يلقى جزاءه عند ربه، ونحن نتكلم بهذا عن أدلة فنقول: هل المنشورات في مساوئ الناس سواءً الأمراء أو العلماء هل هي من باب: (ذكرك أخاك بما يكره) أم لا؟ الجواب: نعم، من باب: (ذكرك أخاك بما يكره) وإذا كان من هذا الباب فهذه غيبة أم غير غيبة؟ غيبة، من قال أنها غيبة؟ قالها الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق وأنصح الخلق وأصدق الخلق.
فإذا كانت الغيبة حراماً فهل يترتب على هذه الغيبة إصلاح ما فسد؟ أبداً، لا يترتب عليها إصلاح ما فسد.
فتبين بهذا أن نشر المنشورات حرام وتوزيعها حرام، وأن الذي يفعل ذلك آثم وأنه سوف يحاسب على حسب نصوص الكتاب والسنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) وقال عليه الصلاة والسلام: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر) وهذا ينافي الصبر لا شك.
قد يقول قائل: إن الله تعالى قال في كتابه: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَاّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء:١٤٨] فنقول: نعم.
لكن معنى الآية الكريمة: أنه لا يجوز أن تجهر بالسوء إلا إذا ظلمت فتجهر في مظلمتك في الشكاية حتى تزال مظلمتك، فهذا معنى الآية، يعني: إذا ظلمني شخص فهو عاصٍ أذهب إلى أي شخص وأقول: فلان ظلمني واعتدى عليَّ فلا بأس بذلك؛ {إِلَاّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء:١٤٨] ولم يقل: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا للظالم حتى نقول إنه عام، إلا من ظلم فله أن يجهر بالسوء من القول فيمن ظلمه؛ لأنه من طبيعة الإنسان أنه يتكلم مع صديقه فيما جرى له من ظلم إنسانٍ عليه؛ لأن في هذا تفريجاً عنه وإزالة غم ولا حرج في هذا.
أما أن ننشر معايب الناس على وجهٍ نعلم أن مفسدته أكثر بكثير من مصلحته إن كان فيه مصلحة، ولا ندري هل يثبت أم لا؛ فإن هذا لا يشك إنسانٌ عاقل عرف مصادر الشريعة ومواردها أن ذلك حرام، فنسأل الله تعالى أن يقينا وإياكم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصلح ولاة أمورنا من العلماء والأمراء، وأن يصلح عامتنا إنه على كل شيءٍ قدير.