نبتدئ بتفسير ما انتهينا إليه من سورة النجم من قوله تبارك وتعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم:٤-٥] أي: ما القرآن العظيم إلا وحي يوحيه الله عز وجل إلى محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذلك بواسطة جبريل الأمين، الذي وصفه الله تعالى في هذه الآية بقوله:{شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[النجم:٥-٦](شديد القوى) يعني: أنه قوي، والمرة: الهيئة الحسنة، فهو ذو قوة وذو جمالٍ وحسن.
وقد رآه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق، فهو الذي نزل بهذا القرآن، وهو أمين وهو قوي حتى ألقاه على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما قال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:١٩٣-١٩٥] .
وقوله:(فاستوى) أي: فعلا، أو فكمل؛ لأن الاستواء في اللغة العربية تارة يذكر مطلقاً دون أن يقيد فيكون معناه: الكمال، ومنه قوله تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً}[القصص:١٤] أي: كمل.
وتارة يقيد بـ (على) فيكون معناه: العلو، كما في قوله تعالى:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ}[الزخرف:١٢-١٣] ، فقال:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} ، وقال:{إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} أي: علوتم عليه.
ومنه قوله تعالى فيما وصف به نفسه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥] أي: علا عليه عز وجل، والعلو خاص بالعرش، وهذا غير العلو المطلق على جميع المخلوقات.
وتارة يتعدى بـ (إلى) يقال: استوى إلى كذا، فيفسر بأنه القصد والانتهاء، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}[فصلت:١١] .
وتارة يقيد بالواو فيكون معناه: التساوي، مثل قولهم: استوى الماء والخشبة، أي: ساواها، فقوله هنا: فاستوى يحتمل أن المعنى: استوى أي: علا؛ لأن جبريل ينزل من السماء فيلقي الوحي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم يصعد إلى السماء، ويحتمل معناه: كمل ويكون كامل القوة، كامل الهيئة، كاملاً من كل وجه مما يليق بالمخلوقات.
{وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى}[النجم:٧] أي: جبريل عليه الصلاة والسلام (بالأفق الأعلى) أي: الأرفع؛ وهو أفق السماء.