[تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون)]
في سورة الحديد قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد:١٩] الإيمان بالله سبق أنه يتضمن أربعة أشياء: الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وتكلمنا على هذا.
أما الإيمان بالرسل فإنه يتضمن تصديقهم فيما أخبروا كلهم من أولهم إلى آخرهم، يجب أن نصدق بما أخبرت به الرسل إذا صح عنهم، وأما العمل بشرائعهم فإننا لا نعمل -أو لا يلزمنا العمل- إلا بشريعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك لأن الشرائع السابقة كلها نسخت بهذه الشريعة، لقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:٣] .
وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:٨٥] وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة -يعني أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار) .
إذاً الإيمان بالرسل يتضمن شيئين: أولاً: تصديقهم فيما أخبروا به، لكن بشرط أن يصح عنهم.
ثانياً: العمل بالشرائع، ولكن هذا لا يكون إلا بشريعة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن شريعته نسخت جميع الشرائع.
قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} (أولئك) أي: الذين آمنوا بالله ورسله.
(هم الصديقون) أي: البالغون في الصدق مبلغاً كبيراً؛ لأن الصديق صيغة مبالغة، والصدق يكون بالقصد وبالقول وبالفعل، فأما الصدق بالقصد فأن يقصد الإنسان بعبادته وجه الله تبارك وتعالى لا يقصد غيره، فمن قصد بعبادته شيئاً غير الله فقد أشرك ولا يقبل عمله، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) .
الثاني: الصدق في القول، بأن يكون الإنسان صادقاً فيما يخبر به، وقد أثنى الله تعالى على الصادقين وأمر أن نكون معهم، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:١١٩] وأثنى على المهاجرين الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون.
وأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصدق وحث عليه ورغب فيه، فقال: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) .
أما الصدق بالفعل: فمتابعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن من كان صادقاً فيما يدَّعي من محبة الله ورسوله فليتبع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:٣١] وقد سمَّى بعض السلف هذه الآية آية المحنة -أي: آية الامتحان- فمن ادعى أنه يحب الله ورسوله قلنا له: اتبع الرسول، فإن اتبعه فهو صادق، وإن خالفه فليس بصادق.