تفسير قوله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم)
ثم ذكر شيئاً من صفاتهم، فقال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:٣٢] (الذين يجتنبون) أي: يبتعدون عنه، وسمي الابتعاد اجتناباً؛ لأن الإنسان يقع في جانب والذي أبعد عنه يقع في جانبٍ آخر، فيبتعدون ولا يتصلون بكبائر الإثم والفواحش، (إلا اللمم) كبائر الإثم هي الكبيرة؛ لأن (كبائر) جمع كبيرة، والكبيرة بعض العلماء عدها، وبعض العلماء حدها، والصواب الحد، أي: أنها محدودة وليست معدودة، والذين ذكروها حداً الظاهر -والله أعلم- أنهم أرادوا المثال، فمثلاً: إذا قال الإنسان هي: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، هذه سبع، إذا قال الإنسان: هذه الكبائر، ليس معنى قوله: إنها محصورة في هذا، إذ من الممكن أن يحمل كلامه على أن ذلك على سبيل التمثيل فقط.
أما الذين حدوها -أي: جعلوا لها ضابطاً- فقالوا في ضابطها: كل ذنبٍ رتب الله عليه لعنة، أو غضب، أو سخط، أو تبرأ منه، أو ما أشبه ذلك فهو كبيرة، ورأيت لبعضهم ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله أنه قال: كل ذنبٍ جعلت له عقوبة خاصة إما في الدنيا أو في الآخرة فهو كبيرة، وعلى هذا فالزنا فيه عقوبة وهو الجلد أو الرجم، والسرقة كبيرة، قطع الطريق كبيرة، وعقوق الوالدين كبيرة، وهلم جراً، كلما رأيت شيئاً من الذنوب جعل الشارع له عقوبة خاصة فهو كبيرة.
أما الذنب الذي نهي عنه فقط فهو صغيرة، كنظر الرجل مثلاً للأجنبية لشهوة هذا ليس كبيرة، هو صغيرة من الصغائر، لكن إن أصر الإنسان عليه وصار هذا ديدنه صار كبيرة بالإصرار لا بالفعل، مكالمة المرأة على وجه التلذذ حرام وليس بكبيرة، ولكن إذا أصر الإنسان عليه وصار ليس له هم إلا أن يشغل الهاتف على هؤلاء النساء ويتحدث إليهن صار كبيرة، فالإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة من حيث الإصرار؛ لأن إصراره على الصغيرة يدل على تهاونه بالله عز وجل، وأنه غير مبال بما حرم الله.
إذاً كبائر الإثم: كل ذنبٍ رتب الشارع عليه عقوبة خاصة إما في الدنيا وإما في الآخرة، وأما ما حرمه وسكت ولم يذكر له عقوبة خاصة بل دخل في العموم فهذا من الصغيرة، ولكن الصغائر إذا أصر عليها صارت كبيرة من حيث الإصرار.
وقوله: (والفواحش) هذه كبائر الكبائر؛ لأن الكبائر منها ما هو فاحش يستفحش ويستعظم ويستقبح بشدة، ومنها ما هو دون ذلك، فمثلاً: الزنا فاحشة، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:٣٢] واللواط فاحشة أعظم من الزنا؛ لأن الله قال في الزنا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:٣٢] وقال لوط لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف:٨٠] فأتى بـ (أل) الدالة على القبح، وأنها جامعة لكل أنواع الفواحش.
نكاح المحارم فاحشة، قال الله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} [النساء:٢٢] فهو أشد من الزنا، أي: لو زنا الإنسان بامرأة أجنبية منه، وبأم زوجته مثلاً، صار الثاني أعظم وأشد وأشنع، ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء: أن من زنا بامرأة من محارمه وإن لم يكن محصناً فإنه يرجم، يعني: الزنا بذوات المحارم ليس فيه جلد ما فيه إلا الرجم؛ لأن الله فرق بين الزنا وبين نكاح ذوات المحارم، نكاح ذوات المحارم وصفه بوصفين: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً} [النساء:٢٢] والزنا وصفه بوصف واحد وهو: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:٣٢] .
وجاءت السنة للتفريق بينهما -أي: بين من زنا بامرأة من محارمه أو بامرأة أجنبية- فجعلت حد الأول القتل بكل حال وإن لم يتزوج، وإن لم يكن ثيباً؛ لأن هذا أعظم -والعياذ بالله- إنسان يزني بأمه أو أخته أو أم زوجته أو بنت زوجته التي دخل بها، هذا فاحشة عظيمة.
إذاً: (يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) قلنا: الفواحش كبائر الكبائر أعظم.
لكن هل نأخذ من هذه الآية أن الكبائر تختلف والفواحش تختلف؟ نعم نأخذ من الآية أنها تختلف؛ لأن الكبائر وصف كلما كان أعظم صار أشد كبيرة، والفواحش كذلك، ولهذا سمعتم {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً} [النساء:٢٢] .
{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:٣٢] {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:٨٠] فرق الله مع أنها كلها فواحش لكن بعضها أعظم من بعض.
{إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:٣٢] قيل: إنه استثناء متصل، وقيل: إنه استثناء منقطع؛ لأن اللمم الشيء القليل، فهل المعنى: إلا الشيء القليل من الكبائر، أي: أنهم يأتون الشيء القليل من الكبائر، أو المعنى: إلا الصغائر من الذنوب؟ إن قلنا بالأول فالاستثناء متصل، وإن قلنا بالثاني فالاستثناء منقطع، وتكون (إلا) بمعنى: لكن، والمعنى الثاني أقرب من حيث التقسيم؛ لأن الله ذكر الكبائر والفواحش والصغائر، وعلى هذا فيكون معنى: (إلا اللمم) أي: إلا أن هؤلاء الذين أحسنوا يأتون الصغائر، والصغائر -والحمد لله- مكفرة بالحسنات، قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:٣١] وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (أن الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) وقال عليه الصلاة والسلام: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) وعلى هذا فيكون المعنى: أن الصغائر تقع مكفرة إما باجتناب الكبائر، أو باجتناب الكبائر مضموماً إليها فعل هذه الحسنات العظيمة؛ الصلوات الخمس، الجمعة إلى الجمعة، رمضان إلى رمضان.
والخلاصة: أن الصغائر تكفر عن الإنسان منها إذا اجتنب الكبائر، وإذا أحسن في الصلوات الخمس والجمعة ورمضان.
قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:٣٢] في هذه الجملة إشارة إلى قوله: (إلا اللمم) أي: أن اللمم يقع في سعة مغفرة الله عز وجل فيغفره الله، والمغفرة: هي ستر الذنب مع التجاوز عنه، أن الله يستر عليك الذنب ويتجاوزه، ولا يكفي ستر الذنب بل لا بد من تجاوزه، والدليل على هذا أمران: لغوي، وسمعي: أما اللغوي: فلأن المغفرة مشتقة من المغفر؛ والمغفر: هو ما يوضع على الرأس عند القتال ويسمى خوذة، ويسمى بيضة، يوضع على الرأس من أجل أن يتقي السهام، هذا الذي وضع على الرأس جمع بين أمرين: الوقاية والستر، فإذاً المغفرة لا بد من ستر ووقاية.
أما السمعي: فهو قوله تبارك وتعالى إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة وقرره بذنوبه وأقر قال: (قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) فدل هذا على أن الوقاية من الذنوب وعدم المؤاخذة من المغفرة.
نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ولكم ما تقدم من ذنوبنا وما تأخر إنه على كل شيء قدير.