[تفسير قوله تعالى: (يؤفك عنه من أفك)]
قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:٩] : {يُؤْفَكُ} بمعنى: يُصْرَف.
{عَنْهُ} قيل: إن الضمير يعود على الرسول عليه الصلاة والسلام، أي: يُصْرَف عن الرسول صلى الله عليه وسلم مَن صُرِف من الناس.
وقيل: إن الضمير يعود على القول، وعلى هذا القول تكون (عَنْ) بمعنى (الباء) ، أي: يؤفك بهذا القول مَنْ أُفِكَ، يُصْرَف بهذا القول عن الحق مَن صُرِف، وهما -أي: المعنيان- متلازمان، والأقرب: أن الضمير في قوله: {عَنْهُ} يعود على القول؛ لأنه أقرب مذكور، {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ} أي: عن هذا القول، أي: بسببه {مَنْ أُفِكَ} أي: مَن صُرِف عن الحق؛ وذلك لأن من البيان سحراً، إذا جاءك رجل بليغ فصيح وصار يورد عليك الشبهات والشكوك، ألست تنخدع بقوله؟ بلى.
هؤلاء المكذبون للرسول عليه الصلاة والسلام عندهم فصاحة، عندهم بلاغة، عندهم تمويه، دجل، فيصرفون الناس، وقوله: مَن صُرِف {مَنْ أُفِكَ} هل المراد: مَن قدر الله عليه أن يُصْرَف؟ أو المراد: {مَنْ أُفِكَ} أي: من صرفه هؤلاء المختلفون؟ هما متلازمان أيضاً، فإن هؤلاء الذين يضلون الناس لا يمكن أن يضلوهم إلا بإذن الله عز وجل، (من يضلل الله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضل له) فهم الذين يأفِكون الناس، أي: يصرفونهم سبباً -هم السبب- لكن المقدر للصرف هو الله عز وجل.
ولكن اعلم -أخي المسلم- أنه لا يمكن أن يصرف عن الحق إلا من علم الله منه أنه ليس أهلاً للحق -نسأل الله لنا ولكم السلامة- ولهذا قال الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:١٢٤] وكذلك الله أعلم حيث يجعل رسالته في الذين يمتثلونها ويؤمنون بها، ويدل على هذا الذي قلنا قول الله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:٥] ؛ ولكن احذر إذا رأيت ضالاً أن تقول: هذا ليس أهلاً للهداية؛ لأن هناك فرق بين القول بالعموم، والقول بالتعيين.
القول بالتعيين حرام؛ لأنك قد ترى شخصاً ضالاً، وتقول: هذا لا يهتدي، وإذا به يهديه الله عز وجل، والعكس بالعكس ربما ترى شخصاً مستقيماً تقول: هذا لا يمكن أن يضل، فإذا به يضله الله، المهم: إياك أن تشهد لمعين، لكن حقيقة أنك إذا رأيت ضالاً متمرداً مستكبراً عن الحق، فإنك بقلبك تستبعد أن الله يهديه؛ لكن لا تقل: إن الله لا يهديه! ألم يبلغكم أن رجلاً كان مجتهداً في العبادة، وهناك آخر مُسْرِف على نفسه، فكان يمر به هذا الرجل وينصحه ولكن ذاك يقول: إنك لا تحول بيني وبين ربي، دعني وربي، فقال المجتهد بالعبادة ذات يوم: والله لا يغفر الله لك، أو قال: والله لا يدخلك الله الجنة، فقال الله تعالى: (من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، إني قد غفرتُ له وأحبطتُ عملك) نسأل الله العافية، لهذا لا تعجب بنفسك، ولا تيأس من رحمة الله، لا فيما يتعلق بك، ولا فيما يتعلق بغيرك، فإن الله على كل شيء قدير.
لكن نعلم على سبيل العموم أن الإنسان إذا لم يكن أهلاً للهداية، فإنه لن يهتدي، فإذا رأينا هذا الشخص منحرفاً مستكبراً، معانداً فلا شك أنه يغلب على ظننا أنه ليس أهلاً للهداية؛ لكن ليس لنا أن ننطق بذلك، يحرم علينا أن ننطق، ويُخشى أن يقال لنا كما قيل لهذا الرجل: (قد غفرتُ له وأحبطتُ عملك) .
وهنا نقطة مهمة وهي: الفرق بين التعيين والإطلاق، مثلاً نحن نشهد لكل مؤمن بأنه في الجنة؛ صح أم لا؟ نعم.
لكن إذا رأينا شخصاً مستقيماً يصلي ويزكي ويصوم ويحج ويتصدق ويحسن ويبر والديه ويصل رحمه، هل نشهد بأنه في الجنة؟ لا.
التعيين شيء، والإجمال شيء آخر، حسن! رأينا رجلاً كافراً ملحداً مُسَلَّطاً على المسلمين يمزق كتاب الله ويدوسه برجليه ويستهزئ بالله ورسوله هل نقول: هذا من أهل النار؟ لا، بل نقول: مَن فعل هذا فهو من أهل النار، والتعيين لا تعين؛ لأنه من الجائز في آخر لحظة أن الله يمن عليه ويهديه، فأنت لا تدري.
لذلك يجب عليكم أن تفرقوا بين التعيين والإطلاق، أو التعيين والإجمال.
مات رجل ونحن نعرف أنه مات على النصرانية حسب ما يبدو لنا من حاله، هل نشهد له بالنار، لا نشهد؛ لأنه أولاً إن كان من أهل النار فسيدخل ولو لم نشهد، وإن لم يكن من أهل النار فشهادتنا شهادة بغير علم، فمثل هذه المسائل لا داعي لها، يعني: لو قال قائل: مات رجل من الروس من الملحدين منهم، مات رجل من الأمريكان من الملحدين منهم، من اليهود من الملحدين، العنه واشهد له بالنار، نقول: ما يمكن، نحن نقول: من مات على هذا فهو من أهل النار، من مات على هذا لعناه، أما الشخص المعين فلا، ولهذا كان من عقيدة أهل السنة والجماعة قالوا: لا نشهد لأحد بالجنة أو بالنار، إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة.