[تفسير قوله تعالى: (لمن شاء منكم أن يستقيم)]
قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:٢٨] جملة (لِمَنْ شَاءَ) بدل مما قبلها؛ لكنها بإعادة العامل وهو (إلَاّ) يصير: {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:٢٧-٢٨] ، وأما من لا يشاء الاستقامة فإنه لا يتذكر بهذا القرآن، ولا ينتفع به، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:٣٧] .
فالإنسان الذي لا يريد الاستقامة لا يمكن أن ينتفع بهذا القرآن.
إذا قال قائل: هل مشيئة الإنسان باختياره؟ نقول: نعم.
مشيئة الإِنسان باختياره، فالله عز وجل جعل للإنسان اختياراً وإرادة، إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل؛ لأنه لو لم يكن ذلك لَمَا قامت الحجة على الخلق الذين أُرْسِلَت إليهم الرسل بإرسال الرسل.
أفهمتم الموضوع؟! إذاً: هل ما نفعله نحن يكون باختيارنا وإرادتنا؟
نعم.
هو باختيارنا وإرادتنا، ولولا ذلك لَمَا كان لإرسال الرسل حجة علينا، إذْ أننا نستطيع أن نقول: نحن لا نقدر على الاختيار، فالإنسان لا شك فاعل باختياره، وكل إنسان يعرف أنه إذا أراد أن يذهب إلى مكة فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى المدينة فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى بيت المقدس فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى الرياض فهو باختياره، أو إلى أي مكان أراد فهو باختياره، لا يرى أن أحداً أجبره عليه، ولا يشعر أن أحداً أجبره على ذلك.
كذلك أيضاً من أراد أن يقوم بطاعة الله فهو باختياره، ومن أراد أن يعصي الله فهو باختياره.
فالمشيئة للإنسان هو حر فيها؛ ولكن نعلم علم اليقين أنه ما شاء شيئاً إلا وقد شاءه الله من قبل، ولهذا قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:٢٩] ، ما نشاء شيئاً إلا بعد أن يكون الله قد شاءه، فإذا شئنا الشيء علمنا أن الله قد شاءه، ولولا أن الله شاءه ما شئناه، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة:٢٥٣] .
فنحن إذا عملنا الشيء نعمله بمشيئتنا واختيارنا؛ ولكن نعلم أن هذه المشيئة والاختيار كانت بعد مشيئة الله عز وجل، ولو شاء الله ما فعلنا.
فإن قال قائل: إذاً لنا حجة في المعصية؛ لأننا ما شئناها إلا بعد أن شاءها الله! فالجواب: أنه لا حجة لنا؛ لأننا لم نعلم أن الله شاءها إلا بعد أن فعلناها، وفِعْلُنا إياها باختيارنا، ولهذا لا يمكن أن نقول: إن الله شاء كذا أو شاء كذا إلا بعد أن يقع، فإذا وقع فبأي شيء وقع؟! وقع بإرادتنا ومشيئتنا.
لهذا لا يَتَّجِه أن يكون للعاصي حُجَّةٌ على الله عز وجل وقد أبطل الله هذه الحجة في قوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام:١٤٨] ، فلولا أنه لا حجة لهم ما ذاقوا بأس الله، ولَسَلِموا من بأس الله؛ ولكن لا حجة لهم، فلهذا ذاقوا بأس الله.
وكلنا نعلم أن الإنسان لو ذُكِر له أن بلداً آمناً مطمئناً يأتيه رزقه رغداً من كل مكان، فيه من المتاجر والمكاسب ما لا يوجد في البلاد الأخرى، وأن بلداً آخر خائف غير مستقر، مضطرب في الاقتصاد، مضطرب في الخوف والأمن، فإلى أيِّهما يذهب؟! بالتأكيد سيذهب إلى الأول ولا شك، ولا يرى أن أحداً أجبره أن يذهب إلى الأول، بل يرى أنه ذهب إلى الأول بمحض إرادته.
هكذا الآن طريق الخير وطريق الشر، قال الله لنا: هذه طريق جهنم، وهذه طريق الجنة، وبيَّن لنا ما في الجنة من النعيم، وما في النار من العذاب، فأيَّهما نسلك؟! بالقياس الواضح الجلي سنسلك طريق الجنة لا شك، كما أننا في المثال الآنف سنسلك طريق البلد الذي يأتيه رزقه رغداً من كل مكان.
فلو أننا سلكنا طريق النار فإنه سيكون علينا العَتب والتوبيخ واللوم، وينُادَى علينا بالسَّفَه، كما لو سلكنا في المثال الأول طريق البلد المَخُوْف المتزعزع الذي ليس فيه استقرار، فإنَّ كل أحدٍ يلومنا ويوبخنا.
إذاً: ففي قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:٢٨] تقرير لكون الإنسان يفعل الشيء بمشيئته واختياره؛ ولكن بعد أن يفعلَ الشيءَ ويشاؤه نعلم أن الله قد شاءه من قبل، ولو شاء الله ما فعل، وكثيراً ما يعزم الإنسان على شيء، يتجه بعد العزيمة على هذا الشيء، وفي لحظة ما يجد نفسه منصرفاً عنه، أو يجد نفسه مصروفاً عنه؛ لأن الله لم يشأْه.
فكثيراً ما نريد أن نذهب -مثلاً- إلى مسجدٍ ما لنستمع إلى محاضرة، وإذا بنا ننصرف بسبب أو بغير سبب، أحياناً بسبب بحيث نتذكر أن لنا شغلاًَ أو يُقال لنا: إن المحاضرة أُلغيت، فنرجع، وأحياناً نرجع بدون سبب، لا ندري إلا وقد صرف الله تعالى همتنا عن ذلك فرجعنا، ولهذا قيل لأعرابي: بِمَ عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم، وصرف الهِمَم.
بنقض العزائم يعني: أن الإنسان يعزم على الشيء عزماً مؤكداً، وإذا به ينتقض.
من نقض عزيمته؟ لا يشعر أن هناك مرجحاً أوجب أن يعدل عن عزيمته الأولى، بل بمحض إرادة الله.
وصرف الهمم أي: أن الإنسان يهمُّ بالشيء ويتجه إليه تماماً، وإذا به يجد نفسه منصرفاً عنه، سواء كان الصارف مانعاً حسياً، أو كان الصارف مجرد اختيار من الإنسان أن ينصرف، وكل هذا من الله عز وجل.
فالحاصل: أن الله يقول: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:٢٨] .
ما معنى الاستقامة؟ الاستقامة هي: الاعتدال، ولا عَدْلَ أَقْوَمُ من عدل الله عز وجل في شريعته.
ففي الشرائع السابقة كانت كل شريعة تناسب حال الأمم زماناً ومكاناً وحالاً، وبعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام أصبحت شريعته تناسب الأمة التي بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم إليها مِن أول بعثته إلى نهاية الدنيا.
ولِهذا كان من العبارات المعروفة: أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان وحال، ولو تمسك الناس به لأصلح الله الخلق.
انظر مثلاً الإنسان! يصلي أولاً قائماً، فإن عجز فقاعداً، فإن عجز فعلى جنب، إذاً: الشريعة تتطور بحسب الشخص؛ لأن الدين صالح لكل زمان ومكان.
ويجب على المحدث أن يتطهر بالماء، فإن تعذر استعمال الماء لِعَجْزٍ أو عَدَمٍ عَدَل إلى التيمم، فإن لم يجد ماءً ولا تراباً، أو كان عاجزاً عن استعمال التراب فإنه يصلي بلا شيء، لا بطهارة ماء ولا بطهارة تيمم.
كل هذا لأن شريعة الله عز وجل كلها مبنية على العدل، فليس فيها جور، وليس فيها ظلم، وليس فيها حرج، وليس فيها مشقة، ولهذا قال: {أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:٢٨] .
وضد الاستقامة انحرافان: انحرافٌ إلى جانب الإفراط والغُلُو.
وانحرافٌ إلى جانب التفريط والتقصير.
ولهذا كان الناس في دين الله عز وجل ثلاثة أصناف: طَرَفان، ووسط.
طرفٌ مُغالٍ مُبالغٌ مُتَنَطِّعٌ مُتَعَنِّتٌ.
وطرفٌ آخرُ مُفَرِّطٌ مُقَصِّرٌ مُهْمِلٌ.
والثالثُ وَسَطٌ بين الإفراط والتفريط، مستقيمٌ على دين الله.
وهذا الأخير هو الذي يُحْمَد.
أما الأول المغالي، والثاني المجافي فكلاهما هالك، بحسب ما عند كليهما من الغلو أو من التقصير.
وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الغلو والإفراط والتعنت والتنطع، حتى إنه قال: (هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون، هلك المتنطِّعون) ؛ لأن التنطُّع فيه إشقاق على النفس، وفيه خروجٌ عن دين الله عز وجل.
كما أن الله ذَمَّ المفرِّطين والمهملين، وقال في وصف المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:١٤٢] .
فدينُ الله وسط بين المغالي فيه والمجافي عنه، ولهذا قال هنا: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:٢٨] ، لا يميل يميناً ولا شمالاً، بل يكون سيرُه سيرَ استقامة على دين الله عز وجل.
والاستقامة كما تكون في معاملة الخالق عز وجل وهي: العبادة، تكون -أيضاً- في معاملة المخلوق، فكن مع الناس بين طرفين، بين طرفِ الشدة والغلظة والعبوس، وطرفِ التراخي والتهاون وبذل النفس، وانحطاط الرتبة، كن حازماً من وجهٍ، وليناً من وجه.
ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله في القاضي: ينبغي أن يكون ليِّناً من غير ضعف، قوياً من غير عنف، فلا يكون لينُه يشطح به إلى الضعف، ولا قوته إلى العنف، بل يكون بين ذلك، ليناً من غير ضعف، قوياً من غير عنف، حتى تستقيم الأمور.
فبعض الناس -مثلاً- يعامل الناس دائماً بالعبوس، والشدة، وإشعارِ نفسه بأنه فوق الناس، وأن الناس تحته، وهذا خطأ.
ومن الناس من يحط قدْر نفسه، ويتواضع إلى حد التهاون، وعدم المبالاة، بحيث يبقى بين الناس لا حرمة له، وهذا أيضاً خطأ.
فالواجب أن يكون الإنسان بين هذا وهذا، كما هو هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام يشتد في موضع الشدة، ويلين في موضع اللين.
فيجمع الإنسان هنا بين الحزم والعزم، واللين والعطف والرحمة.