تفسير قوله تعالى: (لتركبن طبقاً عن طبق)
ثم قال بعد ذلك: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:١٩] والخطاب هنا لجميع الناس أي: لتركبن حالاً عن حال، يشير إلى أن الأحوال تتغير، فيشمل أحوال الزمان، وأحوال المكان، وأحوال الأبدان، وأحوال القلوب، انتبه! يتضمن أربعة أشياء.
أحوال الزمان نعرف أنها تتنقل {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠] فيوم يكون فيه السرور والانشراح وانبساط النفس، ويوم آخر يكون بالعكس حتى إن الإنسان ليشعر بهذا من غير أن يكون هناك سبب معلوم وفي هذا يقول الشاعر:
فيوم لنا ويوم علينا ويوم نُساءُ ويوم نُسرَّ
وهذا شيء يعرفه كل شخص منا بنفسه، تصبح اليوم مستأنساً فرحاً مسروراً، وفي اليوم الثاني تكون بعكس ذلك بدون سبب، لكن هكذا لابد أن الإنسان يركب طبقاً.
كذلك في أحوال الأمكنة: ينزل الإنسان هذا اليوم منزلاً، وفي اليوم الثاني منزلاً آخر، وثالثاً ورابعاً إلى أن تنتهي به المنازل في الآخرة، ومن قبل الآخرة في القبور، وهي منازل مؤقتة، القبور ليست هي آخر المنازل؛ بل هي مرحلة.
وسمع أعرابي رجلاً يقرأ قول الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:١-٢] فقال الأعرابي: والله ما الزائر بمقيم، إن الأعرابي بفطرته عرف أن وراء هذه القبور شيئاً يكون المصير إليه؛ لأننا نعرف أن الزائر يزور ثم يرتحل.
وبهذا نعرف ما نقرأه في الجرائد: (فلان توفي ثم نقلوه إلى مثواه الأخير) أن هذه الكلمة خطأ كبير، ومدلولها كفر بالله عز وجل وكفر باليوم الآخر؛ لأنك إذا جعلت القبر هو المثوى الأخير؛ فهذا يعني أنه ليس بعده شيء، وهذا كفر بالبعث.
الذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير وليس بعده مثوى؛ فهو كافر، والمثوى الأخير إما جنة وإما نار.
أحوال الأبدان: الأبدان يركب الإنسان فيها طبقاً عن طبق، واستمع إلى قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:٥٤] .
أول ما يخلق الإنسان يكون طفلاً صغيراً، يمكن أن تجمع يديه أو رجليه بيد واحدة منك وتحمله بهذه اليد، يكون كائناً ضعيفاً، ثم لا يزال يقوى رويداً رويداً حتى يكون شاباً جلداً قوياً، ثم إذا استكمل القوة عاد فرجع إلى الضعف مرة ثانية، وقد شبه بعض العلماء حال البدن بحال القمر، يبدو هلالاً ضعيفاً، ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يمتلئ نوراً، ثم يعود ينقص شيئاً فشيئاً حتى يضمحل، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، نعم هذه حال الأبدان.
أما أحوال القلوب وما أدراك ما أحوال القلوب! أحوال القلوب هي البلية هي المصيبة هي النعمة هي النقمة، كل قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإن شاء أزاغها، وإن شاء هداها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث قال: (اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) .
القلوب لها أحوال عجيبة، تارة يتعلق القلب بالدنيا، وتارة يتعلق بشيء من الدنيا كالمال، فيكون المال أكبر همه، وتارة يتعلق بالنساء، وتكون النساء أكبر همه، وتارة بالقصور والمنازل، ويكون ذلك أكبر همه، وتارة يتعلق بالمركوبات والسيارات، ويكون ذلك أكبر همه، وتارة يكون مع الله عز وجل، دائماً يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويرى أن الدنيا كلها وسيلة إلى عبادة الله، وإلى طاعة الله؛ فيستخدم الدنيا؛ لأنها خُلقت له، ولا يجعل الدنيا تستخدمه، فانظروا -يا إخواني- أصحاب الدنيا هل تظنون أن الدنيا تخدمهم أم يخدمونها؟ هم الذين يخدمونها، هم الذين أتعبوا أنفسهم في تحصيلها، لكن أصحاب الآخرة هم الذين استخدموا الدنيا وخدمتهم الدنيا، ولذلك لا يأخذونها إلا عن طريق رضى الله، ولا ينفقونها إلا في رضى الله عز وجل، فاستخدموها أخذاً وصرفاً، لكن أصحاب الدنيا الذين تعبوا بها سهروا الليالي يراجعون الدفاتر، ويراجعون الشيكات، ويراجعون المصروفات، ويراجعون المدفوعات، ويراجعون ما أخذوا وما صرفوا هؤلاء في الحقيقة استخدمتهم الدنيا ولم يستخدموها، لكن الرجل المطمئن الذي جعل الله رزقه كفافاً يستغني به عن الناس، ولا يشقى به عن طاعة الله، هذا هو الذي خدمته الدنيا.
أحوال القلوب هي أعظم الحالات الأربع، ولهذا يجب علينا جميعاً -وأقول ذلك لنفسي قبلكم- أن نراجع قلوبنا كل ساعة وكل لحظة، أين يعيش القلب؟ بماذا ينشغل؟ لماذا ينصرف عن الله؟ لماذا يلتفت يميناً وشمالاً؟ ولكن نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وغلب على كثير من الناس حتى إنه ليصرف الإنسان عن صلاته، التي هي رأس ماله بعد الشهادتين، فتجده إذا دخل في صلاته ذهب قلبه يميناً وشمالاً، حتى يخرج من صلاته ولم يعقل منها شيئاً، والناس يصيحون يقولون: صلاتنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر، أين وعد الله؟ حينها يقال: يا أخي! هل صلاتك صلاة؟ إذا كنت من حين تكبر تفتح لك أبواب هواجس لا نهاية لها، فهل أنت مصلٍّ؟ صليت بجسدك لكن لم تصل بقلبك، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل لينصرف من صلاته وما كتب له إلا عُشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها) حسب ما يعقل منها، إذن فالقلوب تركب طبقاً عن طبق.