قال تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}[العلق:١٤] يحتمل أن تكون من الرؤية بالعين، ويحتمل أن تكون من رؤية العلم، وكلاهما صحيح، فالرب عز وجل يرى بعلمه ويرى ببصره جل وعلا:{لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}[آل عمران:٥] والمراد بهذه الجملة التهديد، أي: ليعلم هذا الرجل أن الله تعالى يراه ويعلمه، وهو سبحانه وتعالى محيط بعمله فيجازيه عليه إما في الدنيا وإما في الدنيا والآخرة.
ثم قال:{كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ}[العلق:١٥](كلا) بمعنى: حقاً، ويحتمل أن تكون للردع، أي: لردعه عن فعله السيئ الذي كان يقوم به تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بمعنى: حقاً لنسفع بالناصية، وجملة (لنسفعاً) جواب لقسم مقدر، والتقدير: والله لئن لم ينتهِ لنسفعاً بالناصية، وحذف جواب الشرط وبقي جواب القسم؛ لأن هذا من القاعدة في اللغة العربية: أنه إذا اجتمع قسم وشرط فإنه يحذف جواب المؤخر.
قال ابن مالك في ألفيته:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم
وهنا المتأخر هو الشرط (لئن) والقسم مقدرٌ قبله في التقدير: والله لئن لم ينته لنسفعاً، ومعنى (لنسفعاً) أي: لنأخذن بشدة، والناصية مقدم الرأس، و (أل) فيها -أي: في الناصية- للعهد الذهني، والمراد بالناصية هنا ناصية أبي جهل الذي توعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على صلاته ونهاه عنها، أي: لنسفعاً بناصيته، وهل المراد: الأخذ بالناصية في الدنيا، أو في الآخرة يجر بناصيته إلى النار؟ يحتمل هذا وهذا، يحتمل أنه يؤخذ بالناصية، وقد أخذ بناصيته في يوم بدر حين قتل مع من قتل من المشركين، ويحتمل أن يؤخذ بناصيته يوم القيامة فيقذف بالنار كما قال الله تعالى:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ}[الرحمن:٤١] وإذا كانت الآية صالحة لمعنيين لا يناقض أحدهما الآخر فإن الواجب حملها على المعنيين جميعاً كما هو المعروف، والذي قررناه سابقاً ونقرره الآن: أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الآخر فالواجب الأخذ بالمعنيين جميعاً.