[تفسير قوله تعالى: (وأرجلكم إلى الكعبين)]
ثم قال تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:٦] (أرجلكم) فيها قراءتان سبعيتان؛ (أرجلَكم) بالنصب، و (أرجلِكم) بالجر، فأما على قراءة النصب (أرجلَكم) فإنها معطوفة على الوجه، أي: اغسلوا وجوهكم وأرجلكم، أي: واغسلوا أرجلكم، وأما على قراءة الجر و (أرجلِكم) فهي معطوفة على (رءوسكم) أي: امسحوا بأرجلكم.
فإذا قيل: كيف يمكن أن نوجه هاتين القراءتين: أن الرِّجل تمسح أو أنها تغسل؟ ف
أن يقال: إن السنة بينت متى تمسح ومتى تغسل، فإذا لُبست الجوارب أو الخفين فإن فرضها المسح، وإذا كانت مكشوفة فإن فرضها الغسل، فتكون القراءتان منزَّلتين على حالين للرِّجل في حال الكشف يجب الغسل، وفي حال اللبس يكفي المسح، وبهذا نكون عملنا بالآية الكريمة على الوجهين في القراءة.
فإن قلت: هل يجوز أن نقرأ بالقراءتين فنقول: (وأرجلَكم) ، (وأرجلِكم) ؟ الجواب: أما في حال واحدة فلا، وأما أن تقرأ هذه أحياناً وهذه أحياناً فنعم، والأفضل لمن كان يعرف قراءتين في الآية أن يقرأ بهذه القراءة أحياناً وبالقراءة الأخرى أحياناً وذلك لوجهين: الوجه الأول: أن ذلك اتباع للسنة؛ لأن القراءتين كلتاهما قد وردت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
الوجه الثاني: لئلا ينسى وجهاً ثبتت به الآية الكريمة؛ لأنه إذا لم يتابع ويقرأ بالقراءة هذه أحياناً وهذه أحياناً نسي القراءة التي كان لا يقرأ بها، فيكون قد نسي وجهاً من أوجه القراءات التي جاءت بها الآية الكريمة، ولكن يشترط أن تكون القراءة فيما بينه وبين نفسه، أو فيما بينه وبين زملائه من طلبة العلم، أما عند العامة فلا يقرأ بالقراءة غير الموجودة في المصحف الذي بين أيديهم؛ لأنه إذا قرأ بقراءة أخرى غير الموجودة في أيديهم حصل في هذا ارتباك عند العامة ويقولون: كيف يغير القرآن؟ كما لو قرأ شخص قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} [النساء:٩٤] وقرأ (فَتَثَبتُوا) في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:٩٤] لو قرأ (فَتَثَبتُوا) أمام العامة لأنكروا عليه، ورموه بما يرمونه به من مخالفة القرآن الذي بين أيديهم، ثم حصل عندهم اضطراب وشك، فلهذا لا نرى من الأفضل، بل لا نرى من الأحسن أن يقرأ الإنسان أمام العامة بقراءة غير المشهورة بينهم لما فيه من هذين المحذورين، أما فيما بينه وبين نفسه فالأفضل أن يحفظ القراءات، ويقرأ بهذه مرة وبهذه مرة للسببين اللذين ذكرناهما.
وقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:٦] الكعبان: هما العظمان الناتئان في أسفل الساق، وهم داخلان في الغسل، كما ثبت ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه صفة الوضوء التي أمر الله بها عند إرادة فعل الصلاة.
لكن له فروض وسنن نذكرها الآن على الوجه الأكمل: المسنون إذا حضر الماء أو حضر وهو في الحمام وأراد أن يتوضأ من صنبور الماء؛ فإنه ينوي، والنية معروفة فلا بد أن ينوي الإنسان إذا كان عاقلاً، ويسمي، ويغسل كفيه ثلاث مرات، ثم يتمضمض، ويستنشق ثلاث مرات؛ المضمضة والاستنشاق بكفٍ واحدة ثلاث مرات، وإن شاء تمضمض واستنشق من كفٍ واحدة ثلاث مرات، وإن شاء فصل؛ فيتمضمض ثلاثاً ثم يستنشق ثلاثاً، والأمر في هذا واسع، ثم يغسل وجهه ثلاث مرات، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاث مرات، ثم يمسح برأسه مرةً واحدة: يقبل بيديه ويدبر؛ يبدأ بالناصية، ويسحب يديه إلى العنق، ثم يرجع إلى الناصية ويمسح بأذنيه؛ لأن الأذنين من الرأس، فهما في الرأس كالأنف والفم في الوجه، فيمسح الأذنين بإدخال السبابتين في صماخيهما، ويمسح بإبهاميه ظاهر أذنيه، ثم يغسل رجليه من أطراف الأصابع إلى الكعبين ثلاث مرات، والسنة أن يخلل الأصابع: أصابع اليدين وأصابع الرجلين ليتيقن دخول الماء إلى ما بين الأصابع، لا سيما أصابع الرجل؛ لأنها متلاصقة، وبعد هذا الوضوء السابغ يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين.
فإن الإنسان إذا فعل هذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، وبهذا يكون قد طهر ظاهره وباطنه؛ أما ظاهره فبالضوء، وأما باطنه فبكلمة الإخلاص شهادة: أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وسؤاله الله تعالى أن يجعله من التوابين؛ لأن التوبة تطهير للنفوس من الذنوب، وأن يجعله من المتطهرين.
أسأل الله أن يطهر قلوبنا جميعاً من دنس الشرك والشك والحقد والبغضاء للمسلمين، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين وصالحين مصلحين إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.