[تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات)]
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا} [البروج:١١] هم الذين آمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، فإن هذا هو الإيمان كما فسره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سأله جبريل عن الإيمان؛ فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) .
وأما قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البروج:١١] فالمراد: عملوا الأعمال الصالحة؛ والأعمال الصالحة هي التي بنيت على الإخلاص لله، واتباع شريعة الله، فمَن عمل عملاً أشرك به مع الله غيره، فعملُه مردودٌ عليه، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يرويه عن ربه أنه تعالى قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشركَه) .
وأما المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن مَن عمل عملاً ليس على شريعة الله فإنه باطل مردود، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .
وبناءً على ذلك تكون عبادة المرائي الذي يعبد الله؛ لكن يرائي الناس، أي: يُظْهِر العبادة ليراه الناس فيمدحوه، إذْ أنه لا يريد التقرب إلى الناس، بل يريد التقرب إلى الله؛ لكن يريد أن يمدحه الناس على تقربه إلى الله وعبادته لله، فهذا المُرائي عمله مردود أيضاً.
كذلك مَن تكلم بكلام؛ قرآنٍ، أو ذِكْرٍ، ورفع صوته ليسمعه الناس فيمدحوه على ذكره لله، فهذا أيضاً مُراءٍ، وعمله مردود عليه؛ لأنه أشرك فيه مع الله غيره، أراد أن يمدحه الناس على عبادة الله.
أما من تعبد للناس، فهذا مشركٌ شركاً أكبر، فمن قام يصلي أمام شخص تعظيماً له لا لله، وركع للشخص وسجد له فهذا مشرك شركاً أكبر مخرج من الملة.
وكذلك مَن ابتدع في دين الله ما ليس منه، كما لو رتَّب أذكاراً معينة في وقت معين، فإن ذلك لا يُقْبَل منه حتى ولو كان ذكرَاً لله، ولو كان تسبيحاً أو تحميداً، أو تكبيراً أو تهليلاً؛ لكنه رتبه على وجه لم ترد به السنة، فإن ذلك ليس مقبولاً عند الله عزَّ وجلَّ؛ لأنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله.
فالمهم أن الله اشترط مع الإيمان العمل الصالح، وبهذا نعرف أنه لا ينبغي لنا أن نركز دائماً على العقيدة، ونقول: نحن على عقيدة إسلامية، وعلى كذا، وعلى كذا، ولم نذكر العمل؛ لأن مجرد العقيدة لا يكفي، بل لا بد من العمل.
فينبغي عندما نذكر أننا على العقيدة الإسلامية أن نقول: ونعمل العمل الصالح؛ لأن الله يقرن دائماً بين الإيمان المتضمن للعقيدة وبين العمل الصالح؛ حتى لا يخلو الإنسان من عمل صالح، أما مجرد العقيدة فلا ينفع، فلو أن إنساناً يقول: أنا مؤمن بالله؛ لكنه لا يعمل، فأين الإيمان بالله؟! ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء: أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرج عن الملة، وقد بينا أدلة ذلك في رسالة لنا صغيرة، وكذلك تمر علينا في برنامج: (نور على الدرب) أسئلة حول هذا الموضوع، ونبين الأدلة بما يغني عن إعادتها هنا.
{لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البروج:١١] .
{لَهُمْ} أي: عند الله.
{جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : وذلك بعد البعث، فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهذا قال الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧] .
وقال الله في الحديث القدسي: (أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) لأن فيها من النعيم ما لا يتصوره الإنسان، والله تعالى يذكر أن في الجنات نخلاً، ورماناً، وفاكهةً، ولحمَ طير، وعسلاً، ولبناً، وماءً، وخمراً؛ لكن لا تظنوا أن حقائق هذه الأشياء كحقائق ما في الدنيا، أبداً؛ لأنها لو كانت حقائقها كحقائق ما في الدنيا لكنا نعلم ما أخفي لنا من هذا؛ ولكنها أعظم وأعظم بكثير مما نتصوره.
فالرمان وإن كنا نعرف معنى الرمان أنه على شكل معين، وطعم معين، وذو حبات معينة لكن ليس الرمان الذي في الآخرة كهذا؛ بل هو أعظم بكثير، لا يساويه من جهة الحجم ولا من جهة اللون، ولا من جهة المذاق؛ لكن كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: [ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء فقط، أما الحقائق فهي غير معلومة] .
وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البروج:١١] : قال العلماء: (من تحتها الأنهار) أي: من تحت أشجارها وقصورها، وإلا فهي على السطح فوق، ثم إن هذه الأنهار جاء في الأحاديث أنها لا تحتاج إلى حفر، ولا تحتاج إلى بناء أخدود، وفي هذا يقول ابن القيم في النونية:
أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضانِ
الأنهار المعروفة عندنا أنها تحتاج إلى حفر أو إلى أخاديد تمنع من تسرب الماء يميناً وشمالاً؛ لكن في الجنة لا تحتاج إلى أخدود، بل تجري حيث يشاء الإنسان، ويوجهها كما شاء، بدون حفر وبدون إقامة أخدود.
والأنهار هنا وفي آيات كثيرة مجملة؛ لكنها فُصِّلت في سورة القتال (سورة محمد) قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:١٥] .
{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:١١] .
{ذَلِكَ} : المشار إليه هو: الجنات وما فيها من النعيم.
{الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} أي: الذي به النجاة من كل مرهوب، وحصول كل مطلوب؛ لأن الفوز هو عبارة عن حصول المطلوب، وزوال المكروه.
والجنة كذلك فيها كل مطلوب، وقد زال عنها كل مرهوب، فلا يذوقون فيها الموت، ولا المرض، ولا السقم، ولا الهم، ولا النصب.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.