[حكم وسائل الدعوة]
فضيلة الشيخ! بعض المدارس في العطلة الصيفية، تقوم بفتح المراكز الصيفية لإشغال وقت الشباب الضائع في الشوارع بأمور خيِّرة من محاضرات، وندوات، ومسابقات، وغيرها من الأمور النافعة، وربما يشغلون الشباب في هذه المعسكرات بلعب الكرة، وبمسارح، ثم اعترض بعض الشباب وقال: هذا لا ينبغي ولا يجوز، وإن هذا ليس من طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، إِذ الواجب أن تكون هذه الدروس في المساجد، ويقولون: وسائل الدعوة توقيفية، ثم إن كثيراً من الشباب احتاروا في ذلك.
فنريد منكم توجيهاً شافياً كافياً في ذلك للتفريق بين الوسائل والمقاصد، حتى يتضح الأمر أثابكم الله، وجزاكم الله خيراً.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
لا شك أن الحكومة وفقها الله تُشْكر على ما تنشئه من هذه المراكز الصيفية؛ لأنها تكف بهذه المراكز شراً عظيماً، وفتنة كبيرة، فلو أن هؤلاء الشباب، وهذه الجحافل الكثيرة العدد صارت تجوب الأسواق طولاً وعرضاً، أو تخرج إلى المنتزهات، أو إلى البراري، أو الشعاب، أو الجبال، فما ظنكم بالذي يحصل منها من الشر؟! أعتقد أن كل إنسان عاقل يعرف الواقع سيظن أن كارثة ما ستحصل للشباب من الانحراف، وفساد الأخلاق، والأفكار الرديئة، وغير ذلك؛ لكن هذه المراكز -ولله الحمد- صارت تحفظ كثيراً من الشباب، ولا نقول: تحفظ أكثر الشباب، ولا كل الشباب، كما هو الواقع، ويحصل فيها خيرٌ كثير من استدعاء أهل العلم لإلقاء المحاضرات التي يكون بها العلم الكثير، والموعظة النافعة، والألفة بين الشباب والشيوخ، وهذا لا شك أن فيه مصالح عظيمة.
أما ما يحصل فيها من إمتاع النفس بلعبة الكرة، والمسرحيات، وما أشبه ذلك، فهذا من الحكمة؛ لأن النفوس لو أعطيت الجد في كل حال، وفي كل وقت، لَمَلَّتْ وكَلَّتْ وسئمت، فالصحابة رضي الله عنه قالوا: (يا رسول الله! إذا كنا عندك وذكرتَ لنا الجنة والنار، فكأننا نراها رأي عين؛ لكن إذا ذهبنا إلى بيوتنا، وعافَسْنا الأهل والأولاد نسينا، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ساعة وساعة) بمعنى: أن الإنسان يكون هكذا مرة وهكذا مرة.
وقال عليه الصلاة والسلام لـ عبد الله بن عمرو بن العاص لما قال رضي الله عنه: (لَأَقُومَنَّ الليلَ ما عِشْتُ، ولَأَصُومَنَّ النهار ما عِشْتُ، قال له: أقُلْتَ هذا؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزَوْرِك -أي: ضيفك- عليك حقاً، فأعطِ كلَّ ذي حق حقه) .
وسمع الرسول بقوم قالوا -حين سألوا عن عمله عليه الصلاة والسلام في السر في بيته، وأُخْبِروا به، وكأنهم تَقالُّوا هذا العمل قالوا: الرسول عليه الصلاة والسلام غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ونحن لسنا كذلك، فقال بعضهم: أنا لا أنام الليل -أي: يقوم الليل ولا ينام-، وقال الثاني: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أنا لا آكل اللحم، وقال الرابع: أنا لا أتزوج النساء، فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، قال: (ما بال أقوام يقولون هذا؟! إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .
فإعطاء النفس حظها من المتعة المباحة لا شك أنه غاية الحكمة، ثم إن لعبة الكرة مع ما فيها من التسلي وإذهاب التعب النفسي، ففيها منفعة للبدن؛ لأنها تنشطه وتقويه؛ لكن يجب فيها الآتي: أولاً: أن يتجنب اللاعبون ما يفعله بعض السفهاء من لبس السراويل القصيرة، فإن هذا لا يجوز، لا يجوز للشباب الإسلامي أن يلبس سراويل قصيرة؛ لأننا إن قلنا: إن الفخذ عورة فالأمر واضح؛ فالعورة لا يجوز كشفها، والنظر إليها، وإن لم نقل: إنه عورة فإن كشف أفخاذ الشباب فتنة يفتتن بعضهم ببعض، وهذه مفسدة يجب درؤها.
ثانياً: ألا يؤدي ذلك إلى الكلام البذيء مِن سب أو شتم أو ما أشبه ذلك، فإن ما يوصِل إلى الكلام البذيء الخارج عن المروءة لا يجوز.
ثالثاً: ألا يحصل فعلٌ ينافي المروءة، كما يفعل بعض اللاعبين، إذا غلب أحدٌ منهم الآخر جاءوا يركضون إليه يضمونه، ويَخُمُّونه، ويحملونه على أكتفاهم، وما أشبه ذلك من الأفعال المنافية للمروءة؛ لأن هذه الأفعال وإن كانت جاءتنا من دول ليس عندهم مروءة ولا دين، لكننا أول من ننكرها، حتى الأطفال الصغار الذين دون البلوغ والذين هم في سن العاشرة ونحوها لو فعلوا هذا، لكان ينبغي توجيههم بترك هذا الفعل.
أما قول القائل: إن مكان المواعظ المساجد، فَصَدَق، لكن هل الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعظ الناس إلا في المسجد؟ لا.
بل كان يعظهم في المسجد، ويعظهم في السوق، ويعظهم في السفر، ووعد النساء يوماً يعظهنَّ فيه، فأتى إليهن في بيت إحداهن.
فمكان الوعظ صحيحٌ أنه المساجد، وهذا هو الأصل؛ لكن كلما دعت الحاجة إلى الوعظ في غيره فإنه يُوعَظ فيه.
وهؤلاء الشباب لو قلنا: ائتوا لهم بمراكز في المساجد، واطبخوا لهم الغداء فيها، واصنعوا القهوة فيها، لكان هذا منكراً أيضاً، أنكر من كونهم يجلسون في مكان معين.
وإني أقول لهذا الأخ الذي اعترض بهذا الاعتراض: يجب أن يكون عند الإنسان إدراك ووعي، وأن يُنَزِّل الأمور منازلها، وألا يكون سطحياً يرى من فوق السقوف، بل يكون إنساناً واعياً يَسْبُر أغوار الأمور، وينظر ما الذي يترتب من المصالح والمفاسد على الأفعال، والقاعدة العريضة الواسعة الشاملة للشريعة الإسلامية إنما هي: جلبُ المصالح ودفعُ المفاسد، فقد أتت المراكز بالمصالح ودَفْع المفاسد، ولا أحد يشك في أننا لو قلنا لروَّاد المراكز الصيفية: ائتوا إلى المساجد لما تحمل الناس هذا، حتى العامة لا يتحملون هذا الشيء.
فإذاً نقول: هذه الأماكن؛ أماكن المدارس التي هي محل العلم من أزمنة طويلة، والمسلمون لا ينكرونها، بل درسوا فيها وبنوها، وبنوا لها الأربطة، وطبعوا لها الكتب، كل ذلك لم يكن معروفاً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، غاية ما هنالك أنه يمكن أن يُسْتَدلَّ للأربطة بأصحاب الصُّفَّة؛ لكن هل منع الرسول عليه الصلاة والسلام من ذلك؟ أبداً.
ما منع من هذا، فالمدارس الآن مكان للعلم، يُدْرَس فيها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء، والوسائل المساندة للعلم من نحوٍ وغيره.
فنقول للأخ الذي اعترض هذا الاعتراض: فكِّر في الأمر، واعلم أن الدين أوسع من فكرك، وأوسع من عقلك، وأنه يأتي بالمصالح أينما كانت، ما لم تشتمل على مضار مساوية أو غالبة فتُمْنَع.
أما قوله: إن وسائل الدعوة توقيفية: فكلمة وسائل تدل على أنها ليست توقيفية, فما دامت وسيلة فإننا نسلكها إلا أن تكون محرمة، نسلكها وإن لم يرد نوعها في الشريعة؛ ما لم تكن محرمة؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، ألسنا الآن نبلغ الناس بواسطة مكبر الصوت؟! هذه وسيلة، فهل كانت هذه الوسيلة موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام؟! الجواب: غير موجودة! ألسنا نقرأ الكتب بلبس النظَّارة من أجل تكبير الحرف أو بيانه؟! هذه وسيلة لقراءة الكتب وتحصيل العلم، فهل كان هذا موجوداً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام؟! الجواب: غير موجود! ألسنا نضع في أذن الأصم أو خفيف السمع سماعة ليسمع ما يُلقَى من الخير؟! الجواب: بلى! وهل كان هذا موجوداً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ما دمنا أقررنا بأنها وسيلة، فإننا ننظر إلى الغاية، فإذا كانت الوسيلة محرمةً حَرُمَت في ذاتها.
فلو جاء أناس وقيل لكم عنهم: هؤلاء الجماعة لا يقربون منكم حتى تضربوا لهم بالمعازف، ويرقصوا عليها! قلنا: هذه لا نستعملها؛ لأنها وسيلة محرمة.
أو قيل: لا يقبل هؤلاء الدعوة إلى الله إلا أن تكون الداعية امرأة شابة جميلة! فهل نأتي بامرأة شابة جميلة؟ لا.
إذاً فالوسائل جائزة، وعلى حسب ما هي وسيلة إليه، ما لم تكن ممنوعة شرعاً بعينها فإنها تُمْنَع.
وأنا أحبذ المراكز الصيفية، وأرى أنها من حسنات الحكومة، وأحثُّ أولياء الأمور على إدخال أولادهم فيها؛ لكن يجب الحذر من مسائل، وهي: الأولى: أن يُخْلَط الشباب الصغار مع المراهقين والكبار؛ لما في ذلك من الفتنة التي يُخْشَى منها.
الثانية: أن يكون القائمون على هذه المراكز من ذوي العلم، والأمانة، والصلاح، والمروءة، بحسب الإمكان ولا نقول: لابد أن يكون كذلك؛ لأنه أمر قد يكون مستحيلاً، فالكمال لله وحده؛ لكن بحسب الإمكان، ولهذا لما تكلم العلماء عن القضاة، وأنه يجب أن يكون القاضي عدلاً، قالوا: إذا لم يوجد قاضٍ عدلٌ، فإنه يُوَلَّى أحسن الفاسقَين، وأقربهما للأمانة؛ لأن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦] .
الثالثة: أن على ولاة الأمور إذا أدخلوا أولادهم في هذه المراكز أن يتحسسوا أخبار هذه المراكز، وينظروا كيف تكون مثلاً طلعات التلاميذ إلى البَرِّ، ومن الذي يخرج بهم وهكذا، حتى يحافظوا على أولادهم.
فنسأل الله التوفيق للجميع.
وأكرر -ولا سيما مع طلبة العلم- لابد أن يكون طالب العلم ذهنُه واسعاً وتفكيرُه عميقاً، وألا يأخذ الأمور بظاهرها وسطحيتها، وأن ينظر مقاصد الشريعة وما ترمي إليه من إصلاح الخلق، وألا يمنع ما يكون صلاحاً أو ما يكون درءاً لمفسدة أكبر، إلا إذا ورد الشرع بمنعه.