تفسير قوله تعالى: (وهو الغفور الودود)
قال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:١٤-١٥] .
{وَهُوَ الْغَفُورُ} أي: ذو المغفرة؛ والمغفرةُ سَتْرُ الذنب والعفوُ عنه، فليست المغفرةُ سترَ الذنب فقط؛ بل سترُه وعدمُ المؤاخذة عليه، كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله يخلو بعبده المؤمن يوم القيامة ويقرره بذنوبه، حتى يقر بها ويعترف، فيقول الله عزَّ وجلَّ: قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم) .
ذنوبنا كثيرة: ذنوب قلبية.
وذنوب قولية.
وذنوب فعلية ما أكثرها! لكن الله تعالى -ولله الحمد- يسترها.
يُذكر أن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد منهم ذنباً وَجَدَهُ مكتوباً على باب بيته، فضيحةً وعاراً - والعياذ بالله -؛ لكننا نحن -ولله الحمد- قد ستر الله علينا، فنتوب إلى الله، ونستغفر من الذنوب، فتمحى آثارها نهائياً، ولهذا قال: {وَهُوَ الْغَفُورُ} [البروج:١٤] : أي الساتر لذنوب عباده، المتجاوز عنها، {الْوَدُودُ} [البروج:١٤] : مأخوذة من الود، والود: هو خالص المحبة، فهو جلَّ وعَلا ودود.
وما معنى ودود؟ هل معناه أنه محبوبٌ، أو أنه حابٌّ؟
يشمل الوجهين جميعاً، قال الله تبارك وتعالى: {يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:٥٤] فهو جلَّ وعَلا وادٌّ؛ يحب الأعمال، ويحب الأشخاص، ويحب الأمكنة.
وهو كذلك أيضاً محبوبٌ يحبه أولياؤه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١] .
فكلما كان الإنسان أتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحب إلى الله، فهو جلَّ وعَلا وادٌّ وهو أيضاً مودود، أي: أنه يُحِبُّ ويُحَبُّ، يُحِبُّ سبحانه وتعالى الأعمال، ويحب العاملين، ويحب الأشخاص، بمعنى: أن محبة الله قد تتعلق بشخص معين، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللهَ ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسولُه) فبات الناس، ثم غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: (أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: يشتكي عينيه، فدعا به، فأتى، فبَصَق في عينيه، فبرأ كأن لم يكن به وجع -في الحال-، ثم أعطاه الراية، وقال: انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام) .
الشاهد قوله: (يحب اللهَ ورسولَه ويحبه اللهُ ورسولُه) فهنا أثبت أن الله يحب هذا الرجل بعينه، وهو علي بن أبي طالب.
ولما بعث رجلاً على سرية صار يقرأ لهم في الصلاة، ويختم بقراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه بذلك؛ لأن عمله هذا غير معروف، أن الإنسان كلما قرأ في الصلاة يجعل آخر قراءته: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] فقال: سلوه: لأي شيء كان يصنع ذلك! فسألوه، فقال: إنها صفة الله، وأنا أحب أن أقرأها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبروه أن الله يحبه) فهنا تجدون محبة الله قد علِّقت بشخص معين.
وقد تكون محبة الله معلقة بمعينين بأوصافهم، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:٤] .
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:١٩٥] .
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:٤] هذا ليس فيه شخص معين؛ لكن فيه شخص موصوف بصفة.
كذلك يحب الله سبحانه وتعالى الأماكن؛ فأحب البقاع إلى الله مساجدها.
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (أن مكة أحب البقاع إلى الله) فهذه المحبة متعلقة بالأماكن.
فالله تعالى يُحِبُّ ويُحَبُّ، ولهذا قال: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:١٤] .