فضيلة الشيخ! الخلاف في مسألة فقهية أو مسألة ينبني عليها اعتقاد بناءً على اختلاف في تصحيح حديث أو تضعيفه، فهل يصح لمن يرى تضعيف الحديث أن يسمي من يرى تصحيح الحديث وعمل به بأنه مبتدع أو أن فعله بدعة، هل يحق لأحد أن يرمي أحداً بالبدعة أو الفسق نظراً لأنه خالفه؟
من الذي يحاسب الناس على أديانهم؟ الله سبحانه وتعالى، فإذا أتى حديث واختلف الناس في تصحيحه ورأى بعضهم أنه حديث صحيح فعليه أن يأخذ بما دل عليه هذا الحديث من عمل أو عقيدة؛ لأنه سوف يحاسب:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ}[القصص:٦٥] سيحاسب على ما عنده من العلم، وكذلك على ما عنده من الفهم، قد يكون الحديث صحيحاً ويختلف الناس في فهمه أيضاً فمنهم من يفهمه على وجه ومنهم من يفهمه على وجه آخر، فإذا فهمه إنسان على وجه وآخر على وجه آخر فإن الواجب على كل واحد منهما أن يأخذ بما فهمه من الحديث، لكن لا مانع من أن يناقش أحدهما الآخر حتى يتوصلا إلى رأي موحد.
وأما وصف الإنسان الذي يخالف رأيه في تصحيح حديث أو في دلالته وصفه بالضلال والبدعة فهذا لا يجوز، هذا من عمل أهل الأهواء، ولهذا نجد المسلمين من عهد الصحابة إلى يومنا هذا يعذر بعضهم بعضاً فيما فهم من النص -فمثلاً- قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة حين رجع من الأحزاب، وأمره جبريل أن يخرج إلى بني قريظة الذين نقضوا العهد، قال لأصحابه:(لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة) فخرجوا فأدركتهم الصلاة، فمنهم من قال: لا نصلي إلا في بني قريظة ولو غابت الشمس، وأخروا الصلاة، ومنهم من قال: نصلي في الوقت، والذين قالوا: إننا لا نصلي إلا في بني قريظة، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) فنقول: سمعنا وأطعنا.
والذين قالوا: نصلي في الوقت، قالوا: إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقصد أن نؤخر الصلاة بل قصد أن نعجل الخروج، فنحن لما حل وقت الصلاة نصلي في الطريق، ونستمر في السير.
ففعل هؤلاء كذا وفعل هؤلاء كذا، وعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعنف أحداً منهم، مع أن الخلاف في أمر عظيم، في صلاة تؤخر عن وقتها أو تصلى في وقتها.
وكذلك أيضاً اختلفوا في مسائل كثيرة، منها: امرأة حامل توفي عنها زوجها، فوضعت قبل أربعة أشهر، السنة جاءت بأنها إذا وضعت بعد موت زوجها ولو بدقائق انتهت عدتها، وانتهى إحدادها كما في حديث سبيعة الأسلمية أنها توفي عنها زوجها فوضعت بعده بليال، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزوج.
ومنهم من يقول: لا.
إذا وضعت قبل أربعة أشهر وعشرة أيام فإنها تنتظر حتى تتم لها أربعة أشهر وعشرة أيام، وإن تمت أربعة أشهر وعشرة أيام قبل أن تضع فإنها تنتظر حتى تضع، فيقال: نعم.
إذا مضى عليها أربعة أشهر وعشرة أيام ولم تضع فإنها تنتظر حتى تضع لا شك في هذا، لكن إذا وضعت قبل أربعة أشهر وعشرة أيام فإنها تنتهي عدتها، والذي خالف في هذا: علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وكلاهما فقيه عالم، ومع ذلك نرجع إلى السنة، وندع قول علي وقول ابن عباس، السنة أنها إذا وضعت قبل أربعة أشهر وعشرة أيام فإنها تنتهي عدتها، وتحل للأزواج، حتى لو فرض أنها وضعت وزوجها يغسل ولم يصل عليه، فإن عدتها تنتهي، يعني: تنتهي عدتها قبل أن يُخرج بجنازة زوجها إلى المقبرة.
فأقول: يا إخواني! لا يجوز لنا أن نحمل الناس على ما نفهم نحن من الأدلة، ولا يجوز أن نجبر الناس على أن يصححوا ما لم يصح عندهم، والناس يحاسبهم الله عز وجل ويسألهم يوم القيامة:{مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}[القصص:٦٥] .