للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)]

قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [القدر:١] الضمير هنا يعود إلى الله عز وجل، والهاء في قوله: (أنزلناه) يعود إلى القرآن، وذكر الله تعالى نفسه بالعظمة: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} دون أن يقول: إني أنزلته؛ لأنه سبحانه وتعالى العظيم الذي لا شيء أعظم منه، والله تعالى يذكر نفسه أحياناً بصيغة العظمة، مثل هذه الآية الكريمة: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، ومثل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩] ، ومثل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:١٢] .

وأحياناً يذكر نفسه بصيغة الواحد مثل: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:١٤] وذلك لأنه واحد عظيم، وباعتبار الصفة يأتي ضمير العظمة، وباعتبار الوحدانية يأتي ضمير الواحد، والضمير في قوله: {أَنْزَلْنَاهُ} أعني ضمير المفعول به، وهي الهاء يعود إلى القرآن، وإن لم يسبق له ذكر لأن هذا أمر معلوم، ولا يمكن لأحد أن يشك في أن المراد بذلك إنزال القرآن الكريم.

أنزله الله تعالى في ليلة القدر، فما معنى: إنزاله في ليلة القدر؟ الصحيح أن معناها: ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، وليلة القدر في رمضان لا شك في هذا، ودليل ذلك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:١٨٥] فإذا جمعت هذه الآية أعني: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} إلى هذه الآية التي نحن بصدد الكلام عليها، تبين لك أن ليلة القدر في رمضان، وبهذا نعرف أن ما اشتهر عند العامة من أن ليلة القدر هي ليلة النصف من شهر شعبان لا أصل له ولا حقيقة له، فإن ليلة القدر في رمضان، وليلة النصف من شعبان كليلة النصف من رجب وجمادى وربيع وصفر ومحرم وغيرهن من الشهور، لا تختص بشيء.

حتى ما ورد في فضل القيام فيها فهي أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، وكذلك ما ورد من تخصيص يومها وهو يوم النصف من شعبان بالصيام فإنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، لكن بعض العلماء رحمهم الله يتساهلون في ذكر الأحاديث الضعيفة فيما يتعلق بالفضائل، فضائل الأعمال أو الشهور أو الأماكن، وهذا أمر لا ينبغي، وذلك لأنك إذا سقت الأحاديث الضعيفة في فضل شيء ما، فإن السامع سوف يعتقد أن ذلك صحيحاً وينسبه إلى الرسول عليه الصلاة السلام، وهذا شيء كبير، فالمهم أن يوم النصف من شعبان وليلة النصف من شعبان لا يختصان بشيء دون سائر الشهور، فليلة النصف لا تختص بفضل قيام، وليلة النصف ليست ليلة القدر ويوم النصف لا يختص بصيام.

نعم شهر شعبان ثبت في السنة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الصيام فيه حتى لا يفطر منه إلا قليلاً، وما سوى ذلك مما يتعلق بصيامه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إلا ما لسائر الشهور، كفضل صوم ثلاثة أيام من كل شهر وأن تكون في الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وهي أيام البيض.

وقوله تعالى: {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ما معنى: (القدر) هل هو الشرف كما يقال: فلان ذو قدر عظيم أو ذو قدر كبير أي: ذو شرف كبير، أو المراد بالقدر التقدير؛ لأنه يقدر فيها ما يكون في السنة لقول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:٣-٤] أي يفصل ويبين؟ من العلماء من قال هذا، ومن العلماء من قال بهذا، والصحيح: أنه شامل للمعنيين، فليلة القدر لا شك أنها ذات قدر عظيم وشرف كبير، وأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من الإحياء والإماتة والأرزاق وغير ذلك.