للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الاحتجاج بالقدر على المعصية]

يا شيخ! بارك الله فيك! ذكر ابن القيم في شفاء العليل في محاجة آدم وموسى عليهما السلام فوجدت فيه إشكالاً أورده عليك يا شيخ: ذكر الأقوال في توجيه هذا الحديث، ثم ذكر من هذه الأقوال: أن آدم عليه السلام حاج موسى لأنه تاب من الذنب وأقلع عنه، ومن تاب من الذنب كمن لا ذنب له.

ثم إن ابن القيم خطّأ هذا القول وقال: هذا قول غير صحيح.

ورد عليهم من ثلاثة أوجه، ثم ذكر كلام شيخ الإسلام في المسألة، ثم قال ابن القيم: ويتوجه هذا في جوابين: أما الاحتجاج بالقدر فإنه ينفع في وقت ويضر في وقت، ينفع إذا تاب الإنسان منه، أي: بعد التوبة، ولو احتج الإنسان بالقدر يجوز، أما وهو واقع في الذنب لا يجوز.

فالآن -يا شيخ- توجيه ابن القيم هنا كأنه وقع فيما وقعت فيه الطائفة التي رد عليها؟

الحديث -بارك الله فيك- تنازع الناس فيه حسب مذاهبهم وآرائهم: فمنهم: من رد هذا الحديث وقال: لا يصح؛ لأنه خبر آحاد ومناقض لما يظنونه أصلاً من أصول الشريعة: وهو عدم الاحتجاج بالقدر.

ومنهم: من خرجه على وجوه متعددة، وأحسن الأوجه وجهان: الوجه الأول: ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: إن موسى لم يحتج على آدم بالمعصية وإنما احتج عليه بالإخراج، وقال: لم أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ ولم يقل: لم عصيت الله، فاحتج آدم عليه الصلاة والسلام بأنه قد كتب علينا هذا، يعني: كتب أن يفعل وتكون النتيجة أن يخرج من الجنة، وكأنه يقول: لو علمت أن هذه النتيجة ما فعلت، وهذا يقع كثيراً: أن الإنسان قد يسافر إلى بلد ما ثم يحصل عليه حادث، فإذا قيل له: لم سافرت؟ لو لم تسافر ما حدث هذا.

سيقول في نفسه ويقول لمن كلمه: لو علمت بأن هذا سيحدث ما سافرت، لكن هذا أمر كتب عليَّ أن أسافر ويحصل هذا الحادث، وأنا لم أسافر من أجل الحادث.

فهكذا قضية آدم، آدم لم يأكل من الشجرة ليخرج من الجنة، لكنه لم يعلم بما ينتج عن أكله من هذه الشجرة، فأكل من الشجرة ثم كانت النتيجة أن أخرجه الله تعالى من الجنة، وهي نتيجة في ظاهرها أنها تسوء الإنسان، لكن عند التأمل تجد أن الحكمة في ذلك، فلولا هذا ما عشنا في الأرض ولبقينا هناك، ولاختل نظام العالم الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون.

أما الوجه الثاني: فهو الذي اختاره ابن القيم رحمه الله: أن آدم لم يحتج على الذنب ليستمر عليه كما فعل المشركون الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:١٤٨] وإنما احتج بالقدر في أمر قد فات وتاب منه وانمحى أثر هذه المعصية في توبة الله عليه فكأنه لم يكن.

والظاهر لي: أن توجيه شيخ الإسلام رحمه الله أقرب إلى الصواب؛ لأنه يبعد أن موسى عليه الصلاة والسلام يلوم أباه على أمر تاب منه، واجتباه الله تعالى بعده وهداه، لكن كلام ابن القيم له وجه، والاحتجاج بالقدر لا يلزمه مطلقاً، قال الله تبارك تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:١٠٧] فالاحتجاج بالقدر إذا كان من أجل الاستمرار في المعصية أو فعل المحرم أو ترك الواجب؛ احتجاج باطل، والاحتجاج بالقدر على أمر قد وقع ولا يمكن للإنسان أن يتخلص منه، ولكنه فيما بينه وبين ربه وفيما يجب عليه من التوبة قد تاب؛ هذا لا بأس به.

السائل نفسه: يا شيخ! ألا يوجد الآن تعارض؛ لأن ابن القيم يختار هذا القول مع أنه رد على الطائفة بنحوه؟! الشيخ: لا أستطيع الآن، لأنني بعيد العهد في هذا، فيحتاج إلى تأمل، وأخشى أنه لو قرأنا هذا وناقشنا فيه يفوت على الإخوان الوقت.

ولكن تعطينا الصفحة وأراجعها في وقت آخر.