تفسير قوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة)
نبتدئ بهذا اللقاء كالعادة بما ييسره الله عز وجل من تفسير كلماته التامة، يقول الله تبارك وتعالى في بيان حال الدنيا التي ذكر الله عنها أنها لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر خمسة أشياء {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:٢٠] هذه حقيقة الدنيا.
ثم ضرب الله لنا مثلاً لأن الأمثال تقرب المعاني، إذ أن المثل يعني قياس المعنى على المحسوس {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:٢٠] (غيث) أي: مطر تنبت به الأرض، وتزول به الشدة، {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:٢٠] أي: النبات الناشئ عنه، وأعجبهم -أي: استحسنوه- والكفار هم الكافرون بالله عز وجل؛ لأن الكافر تعجبه الدنيا، ويفرح بها، ويسر بها، وقلبه متعلق بها، ليس له هم إلا ما يراه من زينتها ولهوها، فهو قد (أعجب الكفار) أي: الكفار بالله.
{نَبَاتُهُ} أي: نبات هذا الغيث، ولماذا خص الكفار؟ لأن الكفار هم الذين يستحسنون الدنيا، ويعجبون منها، وتتعلق قلوبهم بها، أما المؤمنون فهم على العكس لا يهمهم إلا ما فيه مصلحة الآخرة، وقيل: إن المراد بالكفار هنا الزراع، ولكن هذا ليس بصحيح، لأن إطلاق الكفار على الزراع نادرٌ جداً هذا إن صح، والذين يقولون: إن المراد بهم الزراع يقولون: لأن الكافر يكفر الحب -أي: يستره في الأرض ويحرث الأرض عليه- لأجل أن يخرج، ولكن ما قررناه أولاً هو الصواب أن المراد هم الكفار بالله.
{أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ} [الحديد:٢٠] بعد ما يظهر ويعجب الكفار ويستحسنونه ويتعجبون منه {يَهِيجُ} [الحديد:٢٠] أي: ييبس ويجف {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} [الحديد:٢٠] بعد أن كان أخضر نامياً يكون مصفراً ذائباً {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:٢٠] أي: يتحطم ويتكسر؛ لأنه يبس فماذا كانت النتيجة لهذا الزرع؟ التلف والزوال، هذه حال الدنيا، تزهو للإنسان بنعيمها وقصورها ومراكبها وأموالها وأولادها وزوجاتها وغير ذلك، وإذا بها تتحطم.
كم من غني كان مسئولاً في أهله منعماً في بيته وفي مركوبه وفي ثيابه وفي كل أحواله وإذا به يعود فقيراً، فتتحطم دنياه، فإن لم يكن مات وتحطمت دنياه بفراقه هذه الدنيا فلا بد من أحد أمرين: إما أن تفارقك الدنيا، وإما أن تفارقها، هذه حال الدنيا وهذا أمرٌ لا يشك فيه بالواقع، لكن النفوس معها غفلة، يسهو بها الإنسان عن مثل هذا الأمر الواقع، فيظن أن كل شيء على ما يرام ويستبعد زوال الدنيا أو زواله هو عن الدنيا.
أما الآخرة فاستمع إليها قال: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الحديد:٢٠] للكافرين {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد:٢٠] للمؤمنين، فأيهما أحق: أن يؤثر الإنسان الدنيا التي مآلها الفناء والزوال أم الآخرة؟ يؤثر الآخرة هذا العقل، لأنك إن آثرت الدنيا ففي الآخرة عذاب شديد، وإن آثرت الآخرة ففيها مغفرة من الله ورضوان، مغفرة للذنوب ورضوان بالحسنات {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:٢٠] هذه الجملة فيها حصر طريقه: النفي والإثبات وهو أعلى طرق الحصر، ما الحياة الدنيا إلا متاع لا غير، ومتاع الغرور يغتر بها الإنسان فيلهو ويلعب ويفرح ويبطر ثم تزول.
كل هذه الجمل وهذه الأوصاف يريد بها الله عز وجل -وهو أعلم- أن يزهد الإنسان في الدنيا ويرغب في الآخرة.
وإني سائلكم: مَن زَهِدَ في الدنيا ورغب في الآخرة هل يفوته شيء من نعيم الدنيا؟
لا، حتى وإن افتقر، فإنه لا يفوته نعيم الدنيا، ودليل هذا من القرآن والسنة قول الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:٩٧] حياة مطمئنة مستريح البال فيها، لم يقل: لنكثرن ماله وأولاده وقصوره {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:٩٧] وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك في قوله: (عجباً لأمر المؤمن إنه أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له) .