قال الجوهري في "نوادر الفقهاء" (ص ٦٩ - ٧٠): "وأجمعوا أن الإشعار للبُدْنِ حَسَن، لا، بل جعله بعضهم من النسك، إلّا أبا حنيفة -رضي اللَّه عنه- فإنه كرهه". قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (٣/ ٥٤٣): "وأبعد من منع الإشعار واعتلّ باحتمال أنه كان مشروعًا قبل النهي عن المثلة، فإن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، بل وقع الإشعار في حجّة الوداع وذلك بعد النهي عن المثلة بزمان. وقال الخطابي وغيره: اعتلال من كره الإشعار بأنه من المثلة مردود بل هو آخر كالكي وشق أذن الحيوان ليصير علامة وغير ذلك من الوسم، وكالختان والحجامة. وشفقة الإنسان على المال عادة فلا يخشى ما توهموه من سريان الجرح حتى يفضي إلى الهلاك، ولو كان ذلك هو الملحوظ لقيّده الذي كرهه به كأن يقول: الإشعار الذي يفضي بالجرح إلى السراية حتى تهلك البدنة مكروه فكان قريبًا، قال الحافظ: وقد كثر تشنيع المتقدمين على أبي حنيفة في إطلاقه كراهة الإشعار وانتصر له الطحاوي في "المعاني" فقال: لم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار وإنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاك البدن كسراية الجرح لا سيما مع الطعن بالشفرة فأراد سد الباب على العامة؛ لأنهم لا يراعون الحد في ذلك، وأمّا من كان عارفًا بالسنة في ذلك فلا. وروي عن إبراهيم النخعي أيضًا أنه كره الإشعار، ذكر ذلك الترمذي، قال: سمعت أبا السائب يقول: كنّا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ويقول أبو حنيفة: هو مثلة. قال الرجل: فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة. قال: فرأيت وكيعًا غضب غضبًا شديدًا، وقال: أقول لك: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتقول قال إبراهيم، ما أحقك أن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا. انتهى. قال الحافظ: "وفي هذا تعقب على الخطابي حين قال: لا أعلم أحدًا من أهل العلم أنكر الإشعار غير أبي حنيفة وخالفه صاحباه، وقالا في ذلك بقول عامة أهل العلم، وفيه أيضًا تعقب على ابن حزم في زعمه أنه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلف، وقد بالغ ابن حزم في "المحلى" (٧/ ١١٠ - ١١٢) في هذا الموضع، ويتعين الرجوع إلى ما قال الطحاوي فإنه أعلم من غيره بأقوال أصحابه"، انتهى كلام الحافظ. وقال ابن عابدين: "جرى صاحب "الدر المختار" على ما قاله الطحاوي والشيخ أبو منصور الماتريدي من أن أبا حنيفة لم يكره أصل الإشعار وكيف يكرهه مع ما اشتهر فيه من الأخبار، وانما كره إشعار أهل زمانه الذي يخاف منه الهلاك خصوصًا في حرّ الحجاز، فرأى الصواب حينئذ سدّ هذا الباب على العامة، فأمّا من وقف على الحد بأن قطع دون اللحم فلا بأس بذلك". قال الكرماني في "المناسك": "وهذا هو الأصح وهو اختيار قوام الدين وابن الهمام، فهو مستحب لمن أحسنه. قال في "النهر": وبه يستغنى عن كون العمل على قولهما بأنه حسن"، انتهى. وقال صاحب "المرعاة" (٧/ ١٨ - ١٩) بعد هذا كله: "قلت: ما روي عن أبي حنيفة من القول بكراهة الإشعار، لا شك أنه مخالف للأحاديث الصحيحة ومنابذ للسنة". وانظر: "اللباب في الجمع بين السنة والكتاب" (١/ ٤٤٤).