"وقد كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سُئلوا عن مسألة يقولون: قال اللَّه كذا، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا، وفعل كذا، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلًا قط فمن تأمَّل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور، فلما طال العهد وبُعدُ الناسِ من نور النبوة صار هذا عيبًا عند المتأخرين أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه قال اللَّه، وقال رسول اللَّه، أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول اللَّه وقول رسوله لا يفيد اليقين في مسائل أصول الدين، وإنما يحتج بكلام اللَّه ورسوله فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة، وأما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يُذكَرُ فيها نَصٌّ اللَّه تعالى، ولا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم قلَّدوه دينهم، بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء، والأموال على قول ذلك المصنِّف، وأجلّهم عند نفسه وزعيمهم عند بني جنسه من يستحضر لفظ ذلك الكتاب ويقول: هكذا قال، وهذا لفظه، فالحلال ما أحلَّه ذلك الكتاب، والحرام ما حرمه، والواجب ما أوجبه، والباطل ما أبطله، والصحيح ما صححه هذا. . . "(١).
وقال أيضًا: "عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أولى بالمُعيب، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل، فكيف يكون ذكر كلام اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان اللَّه عليهم والقياس الصحيح عيبًا؟ وهل ذكر قول اللَّه ورسوله إلا طراز الفتاوى؟ وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به، فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم.
وقد كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسأل عن المسألة فيضرب لها الأمثال ويشبهها بنظائرها، هذا وقوله وحده حجة، فما الظن بمن ليس قوله بحجة؟ ولا يجب الأَخذ به وأحسن أحواله وأعلاها أن يسوغ له قبول قوله، وهيهات أن يسوغ بلا حجة، وقد كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها فيقول: قال اللَّه كذا، وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا أو فعل كذا، فيشفى السائل، ويبلغ القائل، وهذا كثير جدًّا في فتاويهم لمن تأمَّلها، ثم جاء التابعون والأئمة بعدهم فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه وعلمه يأبى أن