يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل، ثم طال الأمد وبَعُدَ العهد بالعلم وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط، ولا يذكر للجواب دليلًا، ولا مأخذًا ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لا يُدرى ما حالهم في الفتاوى، واللَّه المستعان" (١).
وقد اختار ابن القيم هذا الموقف في العصر الذي كان فيه التقليد بالمعين أمرًا سائدًا؛ بحيث كان يظن كل فقيه ومفت أن العمل على مذهب إمامه واجب، وأنه لا تجوز مخالفته في حالة ما، ولذلك كانت الطريقة المتبعة عند الفقهاء أنهم كانوا لا يستدلون على المسائل الطارئة من النصوص الشرعية، بل كانوا يكتفون بذكر المقتبسات من الكتب الفقهية أو بنقل آراء الفقهاء، ولكن العلامة ابن القيم قد خالف هذا المنهج، والتزم عند استنباط المسائل واستخراجها طريقة منفردة منه، وروجها وعممها، وهي: أنه كان يرجع أولًا للعلم بوجهة الشريعة في المسائل الطارئة إلى الكتاب والسنة ويستأنس فيها بآثار الصحابة والتابعين، وكان يذكر في هذا الصدد آراء أئمة الفقه أيضًا، وإن كان يضطر إلى اختيار أثر من آثار الصحابة والتابعين وقول من أقوالهم، أو إلى رأي من آراء الفقهاء في مسألة عند عدم وجود نص صريح واضح من الكتاب والسنة فيها، فكان يقبل ويرجح قطعيًا في هذه الحالة رأيًا أقرب إلى الكتاب والسنة وإن لم يوافق ذلك مذهبه الفقهي، وكان يتبع هذا المنهج أيضًا عند الاجتهاد في المسائل المتجددة فكان يقوي ويبرهن فتواه وقوله بنصوص من الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لا بأقوال الفقهاء، ولا يعني هذا أنه لا يوجد ذكر الكتاب والسنة قطعًا لدى تشريح المسائل الفقهية وتوضيحها أو تفريعها عند غيره من الفقهاء المعاصرين له، بل الاستشهاد والاستئناس بالنصوص الشرعية عندهم أيضًا يوجد بدون شك، ولكنه تبعًا لأنهم كانوا يذكرون مواقف أئمتهم من الفقهاء المجتهدين وحججهم بدلًا من أن ينتفعوا بهذه النصوص مباشرة، فيكتفون بنقل النصوص الواردة في دلائل أئمتهم، أما ابن القيم فعندما كان يتعرض للمسائل الفقهية كان يستأنف التفكير في الكتاب والسنة وبعد التفكير وإمعان النظر في الأدلة كان يستنتج النتائج، ثم إن لم يكن بد من مزيد التصريح والتوضيح فيستأنس بآراء الفقهاء القدامى.