للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العباد في المعاش والمعاد، وقال عنه: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، فأوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. . . " (١).

فابن القيم لا يختلف عن شيخه ابن تيمية في نظرته إلى اشتراط وجوب علم مقاصد الشريعة وحكمها وأهدافها، إذ ذاك ضروريٌّ للمجتهد عاصمٌ له من الجهل والغلط، ومن إيقاع المشقة والعنت بالمكلفين، وإذا كانت الشريعة مبنية على المقاصد والمصالح فكيف يصح أن يكون المجتهد الذي تربى في حجرها وارتضع من لبنها غير ملم بأسرارها ومقاصدها (٢).

ويستطيع الناظر في كثير من مباحث كتابنا هذا، وكتب ابن القيم الأخرى أن يقرر أن لابن القيم رحمه اللَّه نصيبًا وافرًا في هذا الباب، وأنه قد أولى هذه القضية عناية شديدة، واهتمامًا بالغًا، فقد ذكر -مثلًا- في "شفاء العليل" (ص ٣) أن أهم ما يجب معرفته على المكلف النبيل، فضلًا عن الفاضل الجليل، ما ورد في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، فهو من أسنى المقاصد، والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها، فبالقدر والحكمة ظهر خلق اللَّه وشرعه المبين.

كما أنه يصرح دائمًا بأن: أوامر الرب تبارك وتعالى وشرائعه جاءت بما يحقق مصالح العباد في الدارين، وأن أحكم الحاكمين الذي بهرت حكمته العقول أولى بمراعاة مصالح عباده ومفاسدهم في الأوقات والأحوال والأماكن والأشخاص من مراعاة الطبيب للمريض، قال: "وهل وضعت الشرائع إلا على هذا" (٣).

ومع ذلك؛ فهو يذكر أن اللَّه بنى أمور عباده على أنْ عَرَّفَهم معاني جلائل خَلْقه وأمره، دون دقائقها وتفاصيلها، فعقول العالمين ومعارفهم وعلومهم وحكمهم تقصر عن الإحاطة بتفاصيل حكمة الرب سبحانه في أصغر مخلوقاته (٤)،


(١) "إعلام الموقعين" (٣/ ٣٣٧).
(٢) "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" (١١١ - ١١٢).
(٣) "شفاء العليل" (ص ٣).
(٤) "مفتاح دار السعادة" (٣٥٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>