للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرم يبطنه (١)، ولهذا يقال: "طريق خَيْدَع" إذا كان مخالفًا للقصد لا يُفطن له، ويقال للسراب: "الخيدع" لأنه يخدع من يَرَاه ويغرّه وظاهره خلاف باطنه، ويقال للضب: "خادع" وفي المثل: "أخدَعُ من ضَبٍّ" لمراوغته (٢)، ويقال: "سوق خادعة" أي متلونة، وأصله الاختفاء والستر، ومنه "المَخْدَع" في البيت؛ فوزان بين قول القائل: آمنا باللَّه وباليوم الآخر، وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه، إنشاءًا للإيمان وإخبارًا به، وهو غير مبطن لحقيقة هذه الكلمة ولا قاصدٍ له ولا مطمئنٍ به، وإنما قاله متوصلًا به (٣) إلى أمْنه وحَقْن دمه أو نَيْل غرض دنيوي، وبين قول المرابي: بعتك هذه السلعة بمئة، وليس لواحدٍ منهما غرض فيها بوجه [من الوجوه] (٤)، وليس مبطنًا لحقيقة هذه اللفظة، ولا قاصدًا له ولا مطمئنًا به، وإنما تكلم بها متوسلًا (٥) إلى الربا، وكذلك قول المحلِّل: تزوجتُ هذه المرأة، أو قَبِلتُ هذا النكاح، وهو غير مبطن لحقيقة النكاح، ولا قاصدٍ له ولا مريدٍ أن تكون زوجَتَه بوجه، ولا هي مريدة لذلك ولا الولي، هل تجد بينهما فرقًا في الحقيقة أو العُرْفِ؟ فكيف يُسمَّى أحدهما مخادعًا دون الآخر، مع أن قوله: بعتُ واشتريتُ واقترضتُ وأنكحتُ وتزوجتُ غير قاصد به انتقالَ الملك الذي وُضِعتْ له هذه الصيغة ولا ينوي النكاح الذي جعلت (٦) له هذه الكلمة بل قَصْدُه ما ينافي مقصود العقد أو أمر آخر خارج عن أحكام العقد -وهو عود المرأة إلى زوجها المطلِّق، وعود السلعة إلى البائع- بأكثر من ذلك الثمن بمباشرته لهذه الكلمات التي جُعلت لها حقائق ومقاصد مظهرًا لإرادة حقائقها ومقاصدها ومبطنًا لخلافه؛ فالأول نفاق في أصل الدين، وهذا نفاق في فروعه، يوضح ذلك ما ثبت عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أنه جاءه رجل فقال: إن


(١) انظر: "لسان العرب" (٢/ ١١١٣) مادة (خ د ع)، و"معجم مقاييس اللغة" (١/ ٢٧٩) لابن فارس.
(٢) قال (و): "يضرب لمن تطلب إليه شيئًا وهو يروغ إلى غيره.
قال الشاعر:
وأخدع من ضب إذا جاء حارش ... أعد له عند الذنابة عقربا
وذلك أن بيت الضب لا يخلو من عقرب لما بينهما من الألفة". اهـ.
قلت: انظر: "مجمع الأمثال" (١/ ٢٦٠/ ١٣٧٣) للميداني.
(٣) في المطبوع: "متوسلًا به".
(٤) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(٥) في (ق): "متوصلًا".
(٦) في (ن) و (ق): "وضعت".

<<  <  ج: ص:  >  >>