للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذه وقائع متعددة لأشخاص متعددة في أزمان متعددة، والعادة تُوجب اشتهارها وظهورها بينهم، لا سيما وهؤلاء أعيان المُفتين من الصحابة الذين كانت تُضْبَطُ أقوالهم، وتنتهي إليهم فتاويهم، والناس عنقٌ واحد إليهم متلقُّون لفتاويهم، ومع هذا فلم يُحفظ عن واحدٍ منهم إلا الإنكار (١) ولا إباحة الحيل مع تباعد الأوقات وزوال أسباب السكوت، وإذا كان هذا قولهم في التحليل والعِينة وهدية المُقْترض إلى المقرض فماذا يقولون في التحيُّل لإسقاط حقوق المسلمين، بل لإسقاط حقوق رب العالمين، وإخراج الأبْضاع والأموال عن ملك أربابها، وتصحيح العقود الفاسدة والتلاعب بالدين؟ وقد صانهم اللَّه تعالى أن يروا في وقتهم من يفعل ذلك أو يُفتي به، كما صانهم عن رؤية الجهمية والمعتزلة والحلولية والاتّحادية (٢) وأضرابهم، وإذا ثبت هذا عنهم فيما ذكرنا من الحيل فهو دليل على قولهم فيما هو أعظم منها.

وأما المقدمة الثانية فكل مَنْ له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائله ثم أنصف لم يَشُك أن تقرير هذا الإجماع منهم على تحريم الحيل وإبطالها ومنافاتها للدين أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك مما يُدَّعى فيه إجماعُهم، كدعوى إجماعهم على عدم وجوب غسل الجمعة، وعلى المنع من بيع أمهات الأولاد، وعلى الإلزام بالطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وأمثال ذلك.

فإذا وازنت بين هذا الإجماع وتلك الإجماعات ظهر لك التفاوت، وانضم إلى هذا أن التابعين موافقون لهم على ذلك؛ فإن الفقهاء السبعة وغيرهم من فقهاء المدينة الذين أخذوا عن زيد بن ثابت وغيره متفقون على إبطال الحيل، وكذلك أصحاب عبد اللَّه بن مسعود من أهل الكوفة، وكذلك أصحاب فقهاء البصرة كأيوب وأبي الشَّعْثاء والحسن وابن سيرين، وكذلك أصحاب ابن عباس.

وهذا في غاية القوة من الاستدلال، فإنه انضم إلى كثرة فتاويهم بالتحريم في أفراد هذا الأصل وانتشارها أن عصرهم انصرم، ورقعة الإسلام متسعة (٣)، وقد


(١) كذا في (ن) و (ك) و (ق)، وفي سائر النسخ: "فلم يحفظ عن أحد منهم الإنكار"!!
(٢) "الحلولية: هم الذين يزعمون أن اللَّه يحل في كل كائن، أو أن اللَّه روح الكائنات، والاتحادية: الذين يزعمون أن العبد يتحد بربه بضروب من العبادات والمجاهدات.
وكلاهما ملعون بلعنة اللَّه، فاللَّه بائن عن خلقه، ومن لم يعتقد بهذا فهو نافٍ لوجود اللَّه، جاحد به" (و).
(٣) في المطبوع: "وبقعة الإسلام متسعة". قلت: وهي كذلك في "بيان الدليل" (ص ٣٤٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>