للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان رحمه اللَّه بحرًا زاخرًا بألوان العلوم والمعارف، وكان مبرزًا في فقه الكتاب والسنة وأصول الدين واللغة العربية، وعلم الكلام، وعلم السلوك، وعبارات المتصوفين، وغير ذلك، وقد انتفع الناس به وتتلمذ عليه العلماء، ولا تزال مؤلفاته حتى اليوم مصادر إشعاع ومنارات توجيه.

وعالم هذا شأنه لا بد أن يكون موضع إعجاب المنصفين، ومثار حقد الأعداء والحاسدين، فلقد كان مستقل الشخصية، لا يصدر رأيه في المسائل إلا بعد الوقوف على ما قالته الطوائف المختلفة، والنظر بعين فاحصة، ورأي ثاقب ينفي به الباطل، ويؤيد به الحق الذي يراه، جديرًا بأن تسلط عليه الأضواء، ومن هنا قام مذهب ابن القيم على الانتخاب، بمعنى أنه لا يتبع مذهبًا معينًا، وإنما ينشد الحق أينما وجد، ويحارب الباطل أينما وجد، دون أن يتأثر بارتباطات نفسية أو اتجاهات من أي نوع كان، إلا الارتباط بالحق، وبالحق وحده.

وذلك الاتجاه يتمشى مع إصراره على محاربة التقليد الأعمى، والحرص على دعم اتجاهاته وآرائه بالكتاب والسنة، ومحاربة التأويل المستجيب للأهواء. ومن هنا التقى مع السلف في ترك التأويل، وإجراء ظواهر النصوص على مواردها، وتفويض معانيها إلى اللَّه تعالى، وقد كان يستهدف إخراج المسلمين من خلافاتهم، وتضارب آرائهم، وخصوصًا أن هذه الخلافات غريبة على المشتغلين بدين اللَّه، وأن روح الإسلام تأباها ولا تسمح بها، وأن الأوضاع العامة للمجتمع الإسلامي آنذاك كانت غاية في السوء من النواحي السياسية والاجتماعية والعلمية، ومن شأن هذه الخلافات أن تزيد الطين بلة، وأن تشغل المسلمين عن مقاومة عدوهم الذين تكالبوا عليهم في العصور الوسطى، وساعد العدو على تحقيق مآربه تمزق البلاد الإسلامية إلى ممالك صغيرة يحكمها العجم والمماليك، وضياع هيبة الخلافة التي وجدت اسمًا وتلاشت فعلًا، فاستغل التتار والصليبيون هذا الوضع السياسي أسوأ استغلال، وإن كانت الدائرة قد دارت على الأعداء في نهاية المطاف، والحمد للَّه.

ولم تكن الناحية الاجتماعية أقل سوءًا من الناحية السياسية، فقد كان الناس يعيشون في رعب وفزع وخوف من سوء المصير، وخيم الفقر، وابتلى الناس بالجوع والغلاء مع نقص في الأموال والثمرات، وانطلق اللصوص ينهبون ويسلبون، واستعان الأمراء بهؤلاء اللصوص على تحقيق مآربهم، وظهر الفساد في المتاجر وفي كل نواحي الحياة.

<<  <  ج: ص:  >  >>