والسلام على من أرسله اللَّه رحمة للعالمين، محمد صلوات اللَّه عليه وعلى آله، الذين اهتدوا بهديه.
وبعد؛ فالإمام الجليل ابن القيم علَم من أعلام علماء الكتاب والسنة ومنار من منارات الحق، في إشراقه هدى ونور ورحمة، فلقد حَيَّ -رضي اللَّه عنه- لربه وكتاب ربه، وسنة خاتم النبيين، حَيَّ حياة الصِّدِّيقين والشُّهداء، يفتح قلبه للنور، لأنه لا يحب أن يحيا إلا في النور.
عاش يحطم طواغيت الشرك، وأصنام الوثنية، ويدمر تلك الحصون التي شيدتها شهوات الطغاة البغاة من أحلاس الرمم، ورادة الإثم من ردغة المواخير.
عاش، والقرآن بين عينيه، وفي فكره، وفي قلبه، بل عاش والقرآن فلك لا تدور حياته إلا حوله، فأعاد هو وشيخه الجليل الإمام ابن تيمية إلى السنة بهاءها ورونقها، وخلّصاها مما شابها، وبيّنا لأكثر الحقائق الإسلامية مفهوماتها الصادقة الحقة، وجعلا لكل حقيقة ما هو لها دون نقص أو زيادة.
ورفضا بقوة ودراية علمية ممتازة، ونباهة فكرية رائعة ما افتراه المحرفون والمؤولون والمعطلة والمشككة من مفهومات ومصطلحات، ودمغوهم بتجريد الكلمات المقدسة من حقائقها ومعانيها، ثم جاءوا لهذه الكلمات بما يحب اللَّه أن يكون لها.
ولهذا عاشا يناضلان الفلسفة والتّصوّف والكلام، وأدعياء الفقه والأصول من عبدة الرأي والقياس ومحلّلي الإثم باسم الحيل، وأبيا في إصرار المؤمن وكبريائه أن يهطعا للبغي في سطوته الباغية، أو أن يرضيا السلامة يشتريانها بمداهنة الباطل، وممالأة الضلالة، واستحبا السجن على الحرية.
ولم يرو لنا التاريخ بعد عصر الإمامين الجليلين قصة أستاذ وتلميذه تشبه قصة الإمام ابن تيمية وابن القيم، فهما أشبه بالمصباح ونوره، أو بالشمس وضوئها. فرضي اللَّه عنهما وأرضاهما.
ولقد قدر لي أن يعهد إليَّ بتحقيق كتاب "إعلام الموقعين" للإمام الجليل ابن القيم؛ وهو كتاب جليل القدر، عظيم النفع، جم الفائدة، يجمع إلى جمال الحقيقة الشرعية قوة البرهان، ونصاعة الحجة، وإلزام الدليل.
كتاب حث فيه المؤلف على اتباع الآثار النبوية، ثم بيَّن فيه مَن أَهْلُ السنة،