للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أُمِرنَا بالوضوء مما مَسَّت النار (١) إما إيجابًا منسوخًا، وإما استحبابًا غير منسوخ، وهذا الثاني أظهر لوجوه: منها (٢) أن النسخ لا يُصَار إليه إلا عند تعذر الجمع بين الحديثين، ومنها أن رُوَاة أحاديث الوضوء بعضهم متأخر الإسلام كأبي هريرة، ومنها أن المعنى الذي أُمرنا بالوضوء لأجله منها هو اكتسابُها من القوة النارية وهي مادة الشيطان التي خُلق منها والنارُ تُطفأ بالماء، وهذا المعنى موجود فيها، وقد ظهر اعتبار نظيره في الأمر بالوضوء من الغضب (٣)، ومنها أن أكثر ما مع [من] (٤) ادّعى النسخ أنه ثبت في أحاديث صحيحة كثيرة أنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أكَلَ مما مسَّت النار ولم يتوضأ" (٥) وهذا إنما يدل على عدم وجوب الوضوء، لا على عدم استحبابه، فلا تنافي بين أمره وفعله (٦)، وبالجملة فالنسخ إنما يُصار إليه عند التنافي، وتحقق التاريخ، وكلاهما منتفٍ وقد يكون الوضوء من مَسّ الذَّكَر (٧) ومس النساء (٨) من هذا الباب، لما في ذلك من تحريك الشهوة، فالأمر بالوضوء منهما على وفق القياس، ولما كانت القوةُ الشيطانية في لحوم الإبل لازمةً كان الأمر بالوضوء منها لا مُعارض له من فعلٍ ولا قول، ولما كان في ممسوس النار عارضةً صح فيها (٩) الأمر والترك، ويدل على هذا أنه فرق بينها وبين لحوم الغَنَم في الوضوء، وفرق بينها وبين الغنم في مواضع الصلاة، فنهى عن الصلاة في أعطان الإبل وأذِنَ في الصلاة في مَرَابض الغنم (١٠)، وهذا يدل على أنه ليس ذلك


(١) أخرجه مسلم (٣٥٢): (كتاب الحيض): باب الوضوء مما مست النار بسنده إلى عبد اللَّه بن إبراهيم بن قارظ أنه وجد أبا هريرة يتوضأ على المسجد، فقال: إنما أتوضأ من أثوار أَقِط أكلتُها؛ لأني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "توضأوا مما مست النار".
و"الأثوار" جمع ثور، وهو قطعة من (الأقط)، و (الأقط) يتخذ من اللبن المخيض، يطبخ ثم يترك حتى يمصل.
(٢) في (ك): "أحدها".
(٣) في (ق): "نظيره بالأمر به من الغضب" وأشار إلى أن في نسخة "بالوضوء".
(٤) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(٥) أخرج البخاري (٢٠٧) (كتاب الوضوء) باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، ومسلم (٣٥٤) (كتاب الطهارة): باب نسخ الوضوء مما مست النار عن ابن عباس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أكل كتف شاةٍ ثم صلّى ولم يتوضّأ.
(٦) انظر: "تهذيب السنن" (١/ ١٣٧ - ١٣٨)، و"بدائع الفوائد" (٤/ ١٢٥).
(٧) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في "الخلافيات" للبيهقي (مسألة رقم ٢٠)، وتعليقي عليها.
(٨) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في "الخلافيات" (مسألة رقم ١٩) وتعليقي عليها.
(٩) في (ق): "فيه".
(١٠) تقدم تخريجه قريبًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>