للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

مذهبِ مالكٍ، وحفظ "موطأ الإمام" رواية يحيى بن يحيى جيدًا، و"مختصرات ابن الحاجب" الثلاثة (١)، وعُنيَ بفنونٍ كثيرةٍ مِن العلم، وأخذ عن القاضي نورِ الدِّينِ ابنِ الجلالِ، والغماريِّ النَّحويِّ، وسمعَ ابنَ الملقِّنِ، وبرعَ في العربيةِ، وحصَّلَ الوظائفَ، وصارَ نبيهًا في الفقه، والعربية، والقراءة، والحديث، ذا حظٍّ وافرٍ مِن الصَّلاحِ والخيرِ، له مكاشفاتٌ كثيرةٌ غامضةٌ حتَّى قالَ الفاسيُّ (٢): سمعتُ بعضَ أصحابِنا يقولُ: لم أرَ أكثرَ منه مكاشفةً. قالَ: وكنتُ أنا أجتمعُ به كثيرًا، وأستفيدُ منه أشياءَ حسنةً، وأوَّلُ اجتماعي معه بالقاهرةِ، في سنةِ ثمان وتسعين وسبع مئةٍ، وتوجَّهَ فيها، أو بعدها بقليلٍ إلى الحجازِ، فحجَّ، وجاورَ بالحرمينِ، وكانَ يغيبُ في براري المدينةِ اليومَ واليومينِ، ثمَّ يأتي.

وجزمَ الجمالُ المرشديُّ بأنَّ قدومَه مكَّةَ في سنةِ تسعٍ وتسعين، وأنَّه أقبلَ على العبادةِ مُتخلِّيًا عن كلِّ شيءٍ مِن الدُّنيا، مُعرِضًا عن سائرِ النَّاسِ، يسكنُ القفرَ والجبالَ، ويقتاتُ ممَّا تُنبتُه الأرضُ، ولا يدخلُ مكَّةَ إلا يومَ الجمعةِ ليشهدَها، وأقامَ بالمدينةِ كذلك زمانًا، وهو يتردَّدُ للحرمين، لا يأوي دارًا، ولا يركنُ إلى أحدٍ، ثمَّ سافرَ إلى المدينةِ، وعادَ لمكَّةَ، وله جذباتٌ، ولقد رأيتُ منه ما لم أره من أحدٍ من الفقراء. وقالَ المقريزيُّ: لم ندرك مثله فيمَن رأينا وعاشرنا، انتهى.

ماتَ بمكَّةَ في شعبانَ، سنةَ عشرين وثماني مئةٍ، ودُفنَ بالمعلاةِ، وكانَ الجمعُ في جنازتِه يفوقُ الوصفَ، رحمَه الله.


(١) وهي مختصره في الفقه، وفي أصول الفقه، وفي النحو.
(٢) "العقد الثمين" ٧/ ٣٠٥.