للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والقرآن ينزل، فلو كان شيء يُنهى عنه لنهى عنه القرآن" (١)، وهذا من كمال فقه الصحابة وعلمهم، واستيلائهم على معرفة طرق الأحكام ومداركها، وهو يدل على أمرين:

أحدهما: أن أصل الأفعال الإباحة، ولا يَحْرم منها إلّا ما حَرَّمه اللَّه على لسان رسوله.

الثاني: أنَّ علم الرب تعالى بما يفعلون (٢) في زمن شرع الشرائع ونزول الوحي وإقراره لهم عليه دليل على عفوه عنه، والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أنه في الوجه الأول يكون معفوًّا عنه استصحابًا، وفي الثاني يكون العفو عنه تقريرًا لحكم الاستصحاب، ومن هذا النوع تقريره لهم على أكل الزُّرُوع التي تُداس بالبقر، من غير أمر لهم بغسلها، وقد علم -صلى اللَّه عليه وسلم- أنها لا بدّ أن تبول وقت الدياس، ومن ذلك تقريره لهم على الوقود في بيوتهم وعلى أطعمتهم بأرواث الإبل وأخثاء البقر وأبعار الغنم، وقد علم أن دُخانَها ورمادها يصيب ثيابهم وأوانيهم، ولم يأمرهم باجتناب ذلك، وهو دليل على أحد أمرين ولا بدّ: طهارة ذلك، أو أن دخان النجاسة ورمادها ليس بنجس.

ومن ذلك تقريرهم على سجود أحدهم على ثوبه إذا اشتدَّ الحرُّ (٣)، ولا يقال في ذلك: إنه ربما لم يعلمه، لأن اللَّه قد عَلِمه وأقرَّهم عليه ولم يأمر رسوله بإنكاره عليهم، فتأمل هذا الموضع.

ومن ذلك تقريرهم على الأنكحة التي عقدوها في حال الشرك ولم يتعرّض لكيفية وقوعها، وإنما أنكر منها ما لا مَسَاغ له في الإسلام حين الدخول فيه (٤).


(١) رواه البخاري (٥٢٠٧ و ٥٢٠٨ و ٥٢٠٩) في (النكاح): باب العزل، ومسلم (١٤٤٥) في (النكاح): باب حكم العزل.
(٢) في (ك): "يفعلونه".
(٣) في هذا حديث أنس بن مالك قال: كُنَّا نصلي مع النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيضع أحدُنا طرف الثوب من شدة الحرِّ في مكان السجود، أخرجه البخاري (٣٨٥) في (الصلاة): باب السجود على الثوب في شدة الحر، و (٥٤٢) باب وقت الظهر عند الزول، و (١٢٠٨) في العمل في الصلاة: باب بسط الثوب في الصلاة في السجود، ومسلم (٦٢٠) في (المساجد): باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر.
(٤) وذلك مثل أمره -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن عنده أكثر من أربع نسوة أن يبقي أربعًا ويطلق سائرهن، ومثل من كان عنده أختان، أن يفارق إحداهما. . . وقد ذكر المؤلف ذلك في غير هذا الموطن وخرَّجناه مفصلًا في (٣/ ١٦٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>