للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مرة واحدة حتى يستأذن مرة بعد مرة، وهذا كما أنه في الأقوال والألفاظ فكذلك هو في الأفعال سواء، كقوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: ١٠١] إنما هو مرة بعد مرة، وكذلك قول ابن عباس: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين" (١) إنما هو مرة بعد مرة، وكذلك قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يُلْدَغُ المؤمن من جُحْرٍ مرتين" (٢) فهذا المعقول من اللغة والعرف في الأحاديث المذكورة, وهذه النصوصُ المذكورة وقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: ٢٢٩] كلُّها من باب واحد ومشكاة واحدة، والأحاديث المذكورة تفسّر المراد من قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: ٢٢٩] كما أن حديث اللعان تفسير لقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: ٦].

فهذا كتاب اللَّه وهذه سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهذه لغة العرب وهذا عرف التخاطب وهذا خليفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة كلهم معه في عَصْره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب (٣)؛ فلو عَدَّهم العادُّ بأسمائهم واحدًا واحدًا


(١) بهذا اللفظ: رواه مسلم (١٧٦) بعد (٢٨٥) في (الإيمان): باب معنى قول اللَّه عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣)} والدارقطني في "الرؤية" (رقم ٢٧٢)، وابن منده في "الإيمان" (رقم ٧٥٧).
وله ألفاظ وطرق عن ابن عباس انظرها في "الرؤية" (رقم ٢٦٨ وما بعدها) للدارقطني، و"السنة" لابن أبي عاصم (١/ ١٨٩ - ١٩١)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (٢/ ١٩٠)، وغيرها.
(٢) رواه البخاري (٦١٣٣) في (الأدب)، ومسلم (٢٩٩٨) في (الزهد والرقائق) كلاهما في باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، من حديث أبي هريرة.
(٣) قال العلامة أحمد شاكر في كتابه القيم "نظام الطلاق في الإسلام" (ص ٥١ - ٥٦) بعد نقله لكلام الإمام ابن القيم السابق، ما نصه:
"وقد كرر ابن القيم هذا المعنى في كتبه الأخرى، ولكنه جعل أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد، (أنت طالق ثلاثًا): لا يقع به إلا واحدة-: قياسًا على المُثُل التي ذكرها، كما صرح بذلك في "زاد المعاد" (٤/ ٥٥) وإغاثة اللهفان (ص ١٥٦)، واعتبر هو وغيره أن هذا من موضع الخلاف في وقوع الطلاق الثلاث طلقة واحدة أو ثلاث طلقات.
وهذا انتقال نظر غريب منه ومن سائر الذين حققوا في هذا المقام! وأنا أخالفهم جميعًا في ذلك، وأقرر: أن قول القائل (أنت طالق ثلاثًا) ونحوه -أعني إيقاع الطلاق وإنشاءه بلفظ واحد موصوف بعدد- لا يكون في دلالة الألفاظ على المعاني لغة وفي بديهة العقل إلا طلقة واحدة، وأن قوله (ثلاثًا) في الإنشاء والإيقاع، قول محال عقلًا باطل لغة، فصار لغوًا من الكلام، لا دلالة له على شيء في تركيب الجملة التي وضع فيها، وإن دلّ في نفسه على معناه الوضعي دلالة الألفاظ المفردة على معانيها. كما إذا ألحق المتكلم بأية جملة صحيحة كلمة لا تعلق لها بالكلام، فلا تزيد على أن تكون لغوًا باطلًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>