ويقطع عليهم سبل الاجتهاد؛ وذلك لأن الطالب هنا جعل جهله حجة فقطع على نفسه السبيل، ووقف قبل أن يبلغ غايته التي هي الفقه في الكتاب والسنة، ثم يفني هذا الفقيه عمرًا يتبحر في دليل أو حكم لا تتناوله نصوص الكتاب والسنة بعموم ولا إطلاق ولا مقتضى أمر ولا نهي ولا منطوق ولا مفهوم ولا ظاهر عبارة ولا عبارة مصروفة عن ظاهرها ولا شبه ذلك مما يفيده الاستنباط المباشر من النص، فلا شك أنه حكم موهوم ودليل لا حقيقة له، ومن المحال ضبطه وإتقانه لأنه مما افتعله البشر، وليس مما أنزل اللَّه تعالى.
ولذلك تجد مسالك القياس عند المتأخرين في غاية الوعورة والتعقد إلى حد يعجز القائسون أنفسهم عن إدراكها، والانتفاع بها، لما يتجدد من الوقائع ويحدث من القضايا، ولننظر مثلًا إلى لفظ المؤثر والمناسب والمخيل وقياس الشبه والطرد، وهي من الاصطلاحات المهمة في القياس، واعتمد عليها الأصوليون في فهم القياس وضبطه، بحيث يتوقع أن عامة أهل القياس يفهمونها حق الفهم، ولكن قال أبو حامد الغزالي رحمه اللَّه تعالى:"وقد أطلق الفقهاء المؤثر والمناسب والمخيل والملائم والمؤذن بالحكم والمشعر به، واستبهم على جماهير العلماء والأفاضل، إلا من شاء اللَّه دركُ المَيزِ والفصلُ بين هذه الوجوه، واعتاص عليهم طريق الوقوف على حقائقها بحدودها وخواصها. واتصل بأذيال هذه الأجناس قياس الشبه والطرد، وهي المغاصة الكبرى والغمرة العظمى، فلقد عز على بسيط الأرض من يعرف معنى الشبه المعتبر ويحسن تمييزه عن المخيل، والطرد وإجراءه على نهج لا يمتزج بأحد الفنين"(١).
ومن أراد شهودًا على كلام الغزالي، فلْيقرأ مباحثَ القياس في كتب المتكلمين. وقد شعر بعضهم بأثر القياس في الصد عن الاستنباط المباشر من القرآن والسنة، ونقل بعض القائسين هذا الأثر كحجة لنفاة القياس، قال علاء الدين البخاري:"قال القاضي الإمام في "التقويم": قالوا: وفي الحجر عن القياس أمران بهما قوام الدين ونجاة المؤمنين، فإنا متى حجرنا عن القياس لزمنا المحافظة على النصوص والتبحر في معاني اللسان. وفي محافظة النصوص إظهار قالب الشريعة كما شرعت، وفي التبحر في معاني اللسان إثبات حياة القالب؛ فتموت البدع بظهور القالب، ويسقط الهوى بحياة القالب؛ لأن القالب لا يحيى