للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يزعم أنها مقصودُ الشارع من تلك الأوضاع، وجميعها مبنى على ظنٍّ وتخمينٍ غير مطرد في بابه، ولا مبنيّ عليه عمل، بل كالتعليل بعد السماع للأمور الشواذ" (١).

وهذا الموقف من الشاطبي هو الذي حمل الريسوني على أن ينسب إلى ابن القيم البعد في تعليل الأحكام، بما في ذلك الأحكام العادية والتعبدية، وقال: "ورغم أن ابن القيم بسبب إصراره على تعليل كل شيء قد وقع في تعليلات ضعيفة، كما في تعليله للفرق بين بول الصبي وبول الصبية، وكما في تعليله لكون صلاة النهار سرية وصلاة الليل جهرية" (٢).

لكن لو أنعمنا النظر في موقف الشاطبي لتبين لنا أنه تردد وقدم قدمًا وأخَّرَ أخرى (٣). فهو مع أنه أنكر على بعض الناس تعليل اختصاص الصلاة بتلك الهيئات دون بعض إلى غير ذلك مما تقدم ذكره عنه، إلا أنه يذهب إلى تفصيل وتعليل كثير من العبادات كما قال الريسوني: "والشاطبي نفسه يسعفنا بتعليلات أكثر تفصيلًا في الأحكام التي نعى هو على غيره تعليلها وذكر حكمها" (٤)، فيقول الشاطبي: "وذلك أن الصلاة مثلًا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهُّب لأمر عظيم، فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجَّه إليه، فإذا أحضر نية التعبد، أثمر الخضوع والسكون. ثم يدخل فيها على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أمِّ القرآن، لأن الجميع كلام الرب المتوجِّه إليه، وإذا كبَّر وسبَّح وتشهَّد، فذلك كله تنبيه للقلب، وإيقاظ له أن يغفُل عما هو فيه من مناجاة ربِّه والوقوف بين يديه، وهكذا إلى آخرها، فلو قدَّم قبلها نافلةً؛ كان ذلك تدريجًا للمصلي واستدعاءً للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضًا، لكان خليقًا باستصحاب الحضور في الفريضة. ومن الاعتبار في ذلك أن جُعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل، ليكون اللسانُ والجوارحُ متطابقةً على شيء واحد، وهو الحضور مع اللَّه فيها بالاستكانة والخضوع، والتَّعظيم والانقياد، ولم يخلُ موضعٌ من الصَّلاة من قول أو عمل، لئلا يكون ذلك فتحًا لباب الغفلة ودخول وساوس الشيطان" (٥).


(١) "الموافقات" (١/ ١١١ - ١١٢ - بتحقيقي).
(٢) "نظرية المقاصد" (٢١٨).
(٣) حتى أن ابن عاشور قال: "اعلم أنّ الشاطبي ذكر كلامًا مطولًا في العبد والتعليل معظمه غير محرر، ولا متجه، وقد أعرضت عن ذكره هنا لطوله واختلاطه"، انظر: "مقاصد الشريعة" له (ص ٤٨).
(٤) "نظرية المقاصد" (ص ٢١٥).
(٥) "الموافقات" (٢/ ٤٢ - ٤٣ - بتحقيقي).

<<  <  ج: ص:  >  >>